حوار مع الشيخ حسن شحاتة |
(إنه أكثر المشايخ الذين أثاروا جدلاً وصخباً وضجيجاً في مصر).. هكذا وصفته الصحف والمجلات المصرية. إنه الشيخ الفذ حسن شحاتة، عالم الأزهر، وإمام الجماعة في أحد أضخم مساجد القاهرة، والموجه الديني للجيش المصري، وصاحب حلقات العلم في التلفاز والإذاعة والمساجد. هكذا يعرفه الناس، الذين كان الألوف منهم يحتشدون في مسجده الواقع أمام السفارة الإسرائيلية، ليأتمّون بصلاته، وليستمعوا إلى خطبه ومحاضراته، التي طالما صدع فيها بالحق والولاية لأهل البيت النبوة (عليهم الصلاة والسلام)، وطالما فضح فيها الظالمين والمنافقين والفرق المنحرفة، وطالما هاجم فيها الصهاينة أمام سفارتهم الموبوءة عندما يعلو صوته ليصل إليهم، فيتخذون إجراءات الأمن الاحترازية، مرتعدين خوفاً وجزعا! الشيخ شحاتة لم يكن عالماً أزهرياً فحسب، بل أستاذاً لكثير من العلماء الذين تتلمذوا على يديه. وأئمة الأزهر، بما فيهم الشيخ الطنطاوي، يعرفونه عن كثب، فقد كان زميلاً لهم، بدت عليه منذ الصغر ملامح ولائه لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي الوقت نفسه علائم كرهه لأعدائه، رغم أنه لم يكن شيعياً آنذاك، بل شافعياً سنياً، ولكنه كان يقول لأساتذته ومدرسيه: (قولوا ما شئتم ولكن النبي وأمير المؤمنين والزهراء والحسنان شجرة واحدة أغصانها واحدة ثمرها واحد). ولم تكن رحلة الشيخ شحاتة إلى مذهب الأطهار من آل أحمد (عليهم الصلاة والسلام) سهلة، بل امتدت طوال خمسين عاماً! رأى بعدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في رؤيا صادقة دفعته إلى اعتناق عقيدة الإيمان، والمجاهرة بالولاية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وإظهار البراءة من أعدائه، على كل المنابر، وفي مختلف وسائل الإعلام. وأحدث ذلك دويّاً واسعاً.. لقد تبعه الألوف من الناس، عندما سمعوا منه صوت الحق، ووجدوا عنده الحقيقة، ولقوا عنده ما يروي حبهم الفطري لأهل بيت الوحي والعصمة والطهارة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). وسرعان ما أحدث ذلك تموّجاً واسعاً في البلاد، فأخذ الناس يتناقلون خطبه وخطاباته، فانقشعت عنهم سحب التجهيل، وهو ما بدأ يهدد معاقل الوهابية والفرق المنحرفة، فبدأت بشن حربها عليه وعلى أتباعه، فاقتيد عام 1996 للتحقيق في أمن الدولة، واعتقل وسجن مظلوماً بتهمة (إعلان الولاية لعلي بن أبي طالب وترويجها)! تلك التهمة التي يسأل الشيخ شحاتة ربه أن يبقيه عليها!! صحيح أن إعلان الولاية المقدسة كلّف الشيخ كل ما يملك، واضطره إلى التضحية بكل شيء، بما في ذلك بقاؤه في إمامة الناس وقيامه بوظيفته الدينية التي كانت تستدعي سفره إلى بلدان كثيرة بدعوة منها، غير أن هيبته بقت راسخة في أذهان شعب مصر، وشموخه ماثلاً في وجدانهم، إذ أنه فضلاً عن كونه من علمائهم الكبار، فإنه يعد الآن صوت الحق المعبّر، ورمز مقاومة الباطل وأهل الضلال. منذ الإفراج عنه، والشيخ شحاتة ممتنع عن الإدلاء بأية أحاديث لوسائل الإعلام، التي كانت - قبل تشيعه وبعده - تتسابق لإجراء المقابلات معه، بما فيها التلفزيون الرسمي المصري، حيث كان له برنامج خاص فيه، وقد صرّح الشيخ بأول وأخطر حديث له منذ خروجه من السجن، كشف فيه ما حصل له، وتحدث فيه عن قصة حياته، وما أدى إلى استبصاره وتمسكه بالثقلين، كتاب الله وعترة نبيه، فكان هذا اللقاء الذي جاء في أيام أبي عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه)، فإلى التفاصيل:
س: سماحة الشيخ.. بداية، نحن نشكر لكم موافقتكم على إجراء هذه المقابلة معكم في الوقت الذي اتخذتم فيه قراراً بالامتناع عن الحديث لوسائل الإعلام إثر ما تعرضتم له، ونرجو لو تكرمتم في البداية بذكر نبذة عن سيرتكم الذاتية. ج: بسم الله الرحمن الرحيم. حيث إننا في البدء، فلابدّ أن أقول: الحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم صل بكل صلواتك التامات على حبيبك وسر أسرارك ونور أنوارك وسيد خلقك محمد عبدك ورسولك وصفيك وخليلك، وعلى آله آل الشهود والعرفان سادات خلق الله من بني الإنسان، صلوات ربي وتسليماته عليهم في النبيين والمرسلين والملائكة المقربين وفي السماوات والأرضين وفي كل وقت وحين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين. عُبَيدهم يستأذنهم في الحديث عن جنانهم العالي الغالي الذي مَنّ الله بفضله علي بالانتماء إليهم وركوب سفينتهم بعد عناء طويل دام خمسين سنة، فجاء الجود الإلهي بموالاة أهل الولاية والإمامة والعصمة والنزاهة والصدق والكرامة، فواليت قوماً حديثهم وكلامهم (حدثني أبي عن جدي عن جبريل عن الباري). فأي شرف يداني هذا الشرف؟! ربنا ولك الحمد نسألك الثبات على ولايتهم والبراءة من أعدائهم والاقتداء بسبيلهم والاعتصام بحبلهم حبل الله المتين وصراطه المستقيم اللهم آمين. نعم.. إني حسن بن محمد بن شحاتة بن موسى العناني، مولود في يوم الاثنين الثالث عشر من ذي الحجة عام 1365 للهجرة الموافق 10/11/1964 للميلاد في بلدة (هربيط) التابعة لمركز أبو كبير بمحافظة الشرقية بمصر، في أسرة متوسطة الحال، من أب توج من النساء ثلاثة آخرهن أمي، وكنت الثاني بين أشقائي البالغ عددهم ستة. تزوجت مرتين؛ الأولى وأنجبت منها ثلاثة ثم طلقتها، وتزوجت الثانية وأنجبت منها بتول. وهبني أبي للقرآن وأنا في بطن أمي كما أخبرني رحمه الله بذلك، وبعد فترة الرضاعة ذهبوا بي إلى الكتّاب الأول: فحفظت القرآن على يد الشيخ عبد الله العويل وأنا في سن الخامسة وستة أشهر تقريباً كما وجدت تأريخ ذلك بيد الوالد رحمه الله على هامش مصحف تفسير الجلالين. ثم دخلت الكتاب الثاني فجوّدت رواية حفص على الشيخ محمد موسى شنب. ثم دخلت الكتاب الثالث فجوّدت الروايات ورش وحمزة على الشيخ عبد الحليم عبد النبي إسماعيل. ثم أدخلني أبي الأزهر فكنت الأول في القبول كما كنت الأول في الإعدادية الأزهرية. أما المؤلفات فقد اختصرت كتاب إحياء علوم الدين وأنا دون الخامسة عشر فنقيته من الأكاذيب كما كان لي بعض القصائد الشعرية والرسالات الأخرى، كرسالة (سراج الأمة في خصائص السادة الأئمة) وغيرها. النشاط الديني بدأ معي منذ نعومة أظفاري، فوالدنا ربّانا جميعاً على حب آل البيت والتودد إليهم وكان كثيراً ما يحدثني عن شخصية أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكان يقول لي: (يا ولدي إن أمير المؤمنين كان حامي حمى الإسلام، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) إذا مشى وحده يتعرض للأذى، وإذا مشى معه أمير المؤمنين لم يكن يجرأ أحد على التعرض به بسوء). ثم اعتليت المنبر للمرة الأولى في حياتي لخطبة الجمعة وأنا دون الخامسة عشر، والعجيب أني كنت قد كتبت خطبة الجمعة بيدي ولما صعدت المنبر قرأت بعض الفقرات ثم ألقيت بالورق على المنبر وأكملت الخطبة ارتجالاً ببركات آل البيت (عليهم الصلاة والسلام). وظللت أخطب الجمعة في مسجد الأشراف بالبلدة خمس سنوات ثم انتقلت إلى مسجد الأحراز ببلدة مجاورة إثر فتنة فيها، فظللت سنتين أخطب الجمعة وكان همي في هذا الوقت هو التصدي لأعداء آل البيت (عليهم السلام) وهم الوهابية الخبيثة، سواءً من أساتذة المعاهد الذين تعددت مناقشاتي معهم أو مع غيرهم من علماء البلدة أسرى الظلام! ثم دخلت القوات المسلحة في عام 1968 للميلاد وكلّفت بتولي التوجيه المعنوي بسلاح المهندسين وخطبة الجمعة. وكان لي في هذه الفترة قصيدة سميتها (الدرة البهية في مدح العترة النورانية) وقد شرحتها. وكذلك كتبت بحثاً عن فاتحة الكتاب العظيمة في هذه الفترة، وقد وفق الله من أسلموا على يدينا من النصارى ومن تابوا على يدينا من المسلمين حتى أني أقمت الحدود في هذه الفترة على عدد من الأصدقاء.
وأوجز أهم مراحل حياتي التي هي: 1- مرحلة الجيش التي حضرت فيها معركة شهر رمضان وكان لي حديث في مجلة النصر وكرمت من مدير هيئة التدريب. 2- مرحلة (الدورامون) وهي مدينة في محافظة الشرقية وكانت معقلاً من معاقل الإخوان المسلمين والوهابية الخبيثة فقمت فيها على مدى ثماني سنوات بثورة كبيرة غيرت الأوضاع إلى الأصلح وساعدني على ذلك أن أكثر من 90% من أهلها متعلمون مثقفون فاستجابوا لولاية آل البيت (عليهم السلام). 3- مرحلة القاهرة وتبدأ من أوائل عام 84 حتى عام 1996 للميلاد، وهي الفترة التي كانت مكتظة بالنشاط الديني فكان لي خمسة دروس في مساجد متعددة غير خطبة الجمعة، وإمامة الصلاة بمسجد الرحمن بمنطقة كوبري الجامعة، وهو المسجد الذي استمررت في الصلاة فيه وإلقاء الخطب والمحاضرات حتى اعتقلت. كما كان لي أمسيات دينية بإذاعة القرآن الكريم وأحاديث في إذاعة صوت العرب وإذاعة الشعب، كما كان لي ندوات في نوادي القاهرة وجميع محافظات الجمهورية. ثم سجّلت برنامجاً أسبوعياً تلفزيونياً تحت عنوان (أسماء الله الحسنى) كان يبث على القناة الأولى.
س: فمتى كان إعلانكم بالولاية لأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)؟ ج: لما ضاق صدري واشتد كربي بدأت أعلن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر وفي التلفزيون وفي الصحف، كما أعلنت البراءة من أعدائه ولعنتهم عياناً في جميع وسائل الإعلام، فتم اعتقالي في شهر ربيع الثاني عام 1416 للهجرة الموافق لسبتمبر 1996 للميلاد، وكانت تهمتي الوحيدة التي أسأل الله أن يثبتني عليها هي (إعلان الولاية لعلي بن أبي طالب وترويجها)! اللهم صل على آل البيت والعن أعدائهم.
س: هل لنا بتفصيل أكثر حول هذه المرحلة الدقيقة؟ ج: إنني ولله الحمد نشأت منذ صغري على حب آل البيت (عليهم السلام) وموالاتهم، ولكن بعد سنين طويلة، انكشف لي الحق، وكان ذلك من عام 94 إلى 1996 للميلاد، وذلك على إثر رؤيا صادقة رأيت فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على جبل عالٍ، وكنت أنا بين يديه الشريفتين. فجاء أمير المؤمنين (عليه السلام) وظل النبي والأمير يتحدثان ويتكلمان بلغة لم أفهمها، ثم أرسل النبي الإمام في مهمة وأشار لي بالسير خلفه، فسرت خلفه ولم أكن أرى من جسده الشريف إلا عنقه المقدس من الخلف، وقد كان في غاية الجمال (اللهم صل على محمد وآل محمد) وكنت أنحدر من الجبل خلف الإمام، وكلما كنت أكاد أسقط كان الإمام (عليه السلام) يشير بيده إليّ دون أن يلتفت فأقوم وأتماسك. والحمد لله استيقظت من نومي وعلمت أن هذه الرؤيا تعني أنني لابدّ أن أصدع بالحق، وأسير خلف الإمام، وأنني سأتعرض لكثير من المشقات، ولكني سأصمد بولايته (عليه السلام). منذ ذلك الحين، وبعد رحلة بحث شاقة مضنية، تمسكت بحبل الله المتين، وصراطه المستقيم، بولاية أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، فبدأت في إعلانها في كل مكان، وقصدت بذلك الثأر لأمير المؤمنين والمعصومين الطاهرين من أعدائهم، وطوال تلك المرحلة لم تفارقني بركات ساداتي حيث متعني الله بمشاهدتهم في المنام ومواساتهم لي عندما كنت أتعرض للمشاكل، ولله الحمد والمنة. لقد كلفني ذلك كل شيء لكن هذا أقل ما يمكن أن أقدمه لسيدي ومولاي أمير المؤمنين (عليه السلام)، أرجو من حضرته التفضل علي بقبول هذا القليل.
س: وبعد ذلك جرى اعتقالكم؟ ج: نعم ولكن - ولله الحمد - أفرجوا عني بعد ثلاثة أشهر.
س: وماذا عن تصدّيك لإقامة مجالس الإمام الحسين (عليه السلام).. لقد شبّهوا ذلك بإعدادك لانقلاب؟! ج: إن بني أمية لعائن الله عليهم أسسوا في بلادنا مصر أن يوم عاشوراء يوم عيد، وكذبوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ذلك أكاذيب من قبيل الدعوة إلى الإطعام في هذا اليوم والاكتحال ولبس الجديد والغسل والصيام، وزعموا بكذبهم أن هذا اليوم كان يوم السعادة على جميع الأنبياء! فإنا لله وإنا إليه راجعون. لقد كنت أنظر إلى هذا الهراء الذي يُضحك الثكلى ويؤلم قلوبنا في الوقت نفسه، فالعوام ما زالوا يتخذون هذا اليوم عيداً يوزعون فيه الحلوى ويطلقون عليها بالعامية اسم (حلاوة عاشوراء) وذلك كله لأن العلماء - قاتلهم الله - خرست ألسنتهم فكتموا الحق وماجوا بالباطل فلم يعرف الناس ماذا جرى للحسين (صلوات الله عليه) يوم عاشوراء وذلك لأن قتل الحسين مدبر من يوم زريبة بني ساعدة! لقد صرخت وبحّ صوتي وقلت: أيها الناس.. كيف لكم أن تحتفلوا وتبتهجوا في يوم قتل فيه ابن رسول الله وقرة عينه؟! وبدأت أقيم مجالس عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، فكنا نجلس أيام محرم على شرفه (صلوات الله عليه) ونتذاكر سيرته العطرة ورزيته المفجعة، وكنا نبكي طوال الليل حتى يطلع الفجر. ولما فعلت ذلك ولبست السواد وجلسنا عند مقامه (مسجد الإمام الحسين (عليه السلام)) خافوا أن تنقلب مصر، ففعلوا بي ما فعلوا ولله الأمر من قبل ومن بعد!
س: ألهذه الدرجة يخيفهم ذكر الحسين؟! ج: ألم يرعب ذكره (صلوات الله عليه) الظلمة والطواغيت على مر العصور؟!
س: في هذا الإطار.. ما هي نظرتكم للشعائر الحسينية؟ ج: إنها عبادات كالجمعة والجماعات، والبكاء فيها على الحسين (عليه السلام) بصدق ومعرفة وإخلاص أمان من عذاب جهنم يوم القيامة. فلابدّ من إحياء ذكريات الأئمة في مواليدهم ووفياتهم، لأنهم الأحباب، وهل يمكن لعاقل أن يعيش بدون ذكر حبيبه. وكما يقول الشاعر: كرر على سمعي حديث أحبتي فبذكرهم تتنزل الرحماتُ واحضر مجالسهم تنل الرضى وقبورهم زرها إذا ماتوا إني لأعجب على من يعترض على إحياء ذكريات آل البيت.. والله إنه لأمر عجيب في هذه الأمة! لم يكتفوا بقتلهم وتشريدهم ومطاردتهم وسمهم وذبحهم، بل ويحاولون أن ينسوا الخلق ذكرهم وينسفوا مجالسهم! فأي أمة هذه؟! إن النصارى يلتمسون آثار السيد المسيح (عليه السلام) ويقيمون الكنائس ويحيون مولده وتحتفل الدنيا كلها معهم! واليهود يقفون عند حائط المبكى يبكون على الهيكل، بل قال قائلهم: لو ترك موسى لنا ولداً لعبدناه من دون الله! وهؤلاء يعترضون علينا حين نبكي إمامنا الحسين ونندبه! والله لا أدري من أي جنس هؤلاء؟! هم قطعاً ليسوا من البشر ولا من الأنعام! لأن الأنعام بكت على الحسين، بل بكاه البشر والوبر (صلوات الله عليه وعلى جده وأبيه وأمه وأخيه والمعصومين من بنيه).
س: ما هي موقعية أهل البيت (عليهم السلام) في الشريعة؟ ج: إن موقعيتهم موقعية الإمامة العظمى، فهم أصل الأصول في وجود هذا الكون، وهم نجوم الاهتداء من اتبعهم اهتدى لصراط الله المستقيم، ومن حاد عن طريقهم كان من المغضوب عليهم الضالين. فأهل البيت (عليهم السلام) هم مصابيح الهدى وسفن النجاة، وهم أئمتنا وأولو الأمر المفروض طاعتهم بعد طاعة الله كما ورد بنص القرآن. وهم خزّان القرآن وهم كواكب الصراط وهم الصالحون وهم أولياء الله وهم أهل الذكر المطلوب منا سؤالهم عن كل شيء في الدين وهم أهل الدين الصحيح، فواجب على كل موحد عاقل أن يتبعهم في العبادة والمعاملة. إذ هم أهل القدس والطهارة وأهل العصمة والنزاهة، وأقول كما قال القائل: هم النور نور الله جل جلاله هم التين والزيتون والشفع والوترُ مهابط وحي الله خزّان علمه ميامين في أبياتهم نزل الذكرُ فلولاهم لم يخلق الله آدماً ولا كان زيد في الوجود ولا عمر ولا دُحِيت أرض ولا رُفِعت سما ولا طلعت شمس ولا أشرق البدر
س: بعض فرق السنة تقول: إن أهل البيت يدخل معهم زوجات النبي.. فما قولكم؟ ج: آل البيت (صلوات الله عليهم) هم أهل العباءة وأهل الكساء والأئمة التسعة من ولد الحسين فقط، ولا يدخل أحد من الصحابة ولا من زوجات النبي معهم في هذا الشرف. إذ قد جاء في الحديث الصحيح أن أم المؤمنين أم سلمة حاولت الدخول معهم تحت العباءة فمنعها النبي (صلّى الله عليه وآله) وقال لها: إنك زوج رسول الله وإنك إلى خير. ولا دخل لزوجات النبي بآل البيت لأن الله كشف عن إمكان وقوع الفاحشة منهن إذ قال تعالى ذكره: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ). في حين أن الله تعالى أنزل في آل البيت آية التطهير المحكمة إذ قال تعالى شأنه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). ولم يلحق أحد بآل البيت سوى جبريل (عليه السلام) من الملائكة، ومولانا سلمان الفارسي المحمدي من البشر.
س: فهل يصح الاعتقاد بأفضلية أحد على أهل البيت (عليهم السلام)؟ ج: بالطبع لا. فإن الخلق كلهم من ملائكة مقربين وبشر مؤمنين وذوات في كل العوالم والسماوات والأرضين، كلهم يتعبدون بالصلاة على محمد وآل محمد، أفهل لأحد بعد هذا أفضلية عليهم؟! كلا وألف كلا.
س: وماذا عمن يرى أن الأنبياء (عليهم السلام) أفضل من أهل البيت (صلوات الله عليهم)؟ ج: إن آل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) أفضل من جميع خلق الله بعد رسول الله محمد، فهم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين وأولي العزم والملائكة المقربين وسكان سدرة المنتهى وسكان الحجب والحافون حول العرش. وأي إنسان يفضل أحد عليهم سواء من الأنبياء والمرسلين أو الصحابة أو الحواريين فذلك يكون لسبب من ثلاثة: إما عدم المعرفة، وهو معذور حتى يعرف. وإما الجهل المركب الذي يتكلم صاحبه بالخطأ الفاحش ويعتقده صواباً. وإما العداوة والعناد، فصاحبه أعمى البصر مطموس البصيرة فاقد العقل أسود القلب، والدابة خير منه! وإيضاحاً لذلك، وحتى يتذكر المتذكر ويعتبر المعتبر، نقول أن هذا البيت الكريم لم يخلق الله في العالمين بيتاً مثله، فعميد البيت هو سيد المرسلين، وولي البيت هو أمير المؤمنين، وسيدة البيت هي خيرة الله في الأولين والآخرين، ورجال البيت هم الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة أجمعين، والإمام السجاد المعروف بزين العابدين، وباقر علوم النبيين، وصادق أهل السماوات والأرضين، وكاظم الخاشعين، ورضا الزاهدين، وجواد الأكرمين، وهادي المهتدين، وعسكري المقام الأمين، ومهدي الله في السماوات والأرضين، صلوات الله عليهم أجمعين. فائتني يا هذا ببيت مثل هذا البيت، معصوم بروح معصومة، ها هو التاريخ قلب صفحاته لترى الحق جلياً. شقيق الرسول في كل المقامات والأخلاق ما عدا النبوة، تزوج بنت الرسول وبضعته وفلذة كبده، من لرضاها يرضى الله جل جلاله، ولغضبها يغضب، أخو الرسول، وزوجته أم أبيها، ناهيك عن الذرية وارثي الجمال والكمال المحمدي، عينا رسول الله ويداه، كبده وقلبه. اسمع مع النبي الذي لا ينطق عن الهوى يقول ما معناه: (أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى). وما قولك في شجرة محمد أصلها وفاطمة فرعها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمارها وأحبابهم ورقها، من تعلق بها نجا ومن تخلف عنها هلك؟ أي بيت من البيوت قال النبي لأهله: (من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي في الجنة) غير هذا البيت النبوي؟ أي بيت من البيوت قلّد النبي أهله الأوسمة الإلهية والنياشين الربانية فقال لولي البيت: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى). وقال لسيدة البيت: (فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها ويسوؤني ما يُسيئها). وقال لسيداه: (الحسين والحسين إمامان قاما أو قعدا. الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما. الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا. الحسن والحسين سمعي وبصري. يا حسن أشبهت خَلقي، يا حسين أشبهت خُلقي. أما الحسن فله هيبتي وسؤددي وأما الحسين فله جودي وجرأتي).. لمن كل هذا غير أهل البيت النبوي؟ انظر وتأمل. أي بيت من البيوت في أنحاء المعمورة وفي تاريخ الدنيا ضمهم سيد المرسلين بعباءته وقال: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) غير أهل هذا البيت؟ أي بيت من البيوت خرج أهله مع النبي للمباهلة وقال لهم النبي: (إذا دعوت فأمّنوا) ونزلت القساوسة من على الجبل تهرول كالحُمُر المستنفرة حين رأت أنوار جبين أهل هذا البيت الكريم وقال كبيرهم: (إني رأيت وجوها لو أنها سألت الله إزالة جبل لأزاله)! أي بيت من البيوت أعلن النبي على مسامع الدنيا: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض؟ أي بيت من البيوت جعل الله أجر النبوة والرسالة والشريعة والحقيقة والطريقة والعبادة مودته وقال بنص القرآن: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) غير هذا البيت؟ وماذا أقول عن بيت لو تدبّر العاقل لوجد أكثر من نصف القرآن يتحدث عنهم ويشير لفضلهم ويبين مقامهم العالي. وتعال معي إلى هذا الحديث الشريف الذي أخرجه الديلمي (من علماء السنة) في مسند الفردوس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (كنت أنا وعلي نورين بين يدي الله تعالى ثم نقلنا إلى صلب آدم، فلم يزل ينقلنا من صلب إلى صلب، إلى عبد المطلب، فخرجت في عبد الله وخرج علي في أبي طالب، ثم اجتمع نورنا في الحسن والحسين، فهما نوران من نور رب العالمين). إن أهل البيت لا يعلوهم في المقام إلا رسول الله محمد (صلّى الله عليه وآله)، فهم أفضل من جميع الخلق بعد ذلك. وقد أسعفنا القرآن بهذه الحقيقة، فكبار المرسلين طلبوا من الله اللحوق بالصالحين، كما جاء في دعاء الخليل إبراهيم (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) والصديق يوسف (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وسليمان الحكيم (وأدخلني برحمتك في عباد الصالحين)، وسليمان الحكيم (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين). واعلم أن وصف (الصالحين) إذا ذكر في القرآن فالمراد به المعصومون الأربعة عشر عليهم السلام، وكذلك وصف (الأولياء) فهم أولياء الله لا غيرهم. وقد توسل الأنبياء جميعهم، والمرسلون كلهم، وأولوا العزم، بأهل بيت النبوة لقضاء حوائجهم، فكان أبو البشر آدم (عليه السلام) يدعو ربه قائلاً: (اللهم إني أسألك بحق محمد وأنت المحمود، وبحق علي وأنت الأعلى، وبحق فاطمة وأنت فاطر السماوات والأرض، وبحق الحسن وأنت المحسن، وبحق الحسين وأنت قديم الإحسان). وأقول أنا عُبَيدهم حسن: وبحق المهدي وأنت الهادي أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تغفر لي ذنبي. وحقاً إن مقام الإمامة أعلى من مقام النبوة، ففي الحديث الشريف: (إن الله اتخذ إبراهيم نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، واتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، واتخذه خليلاً قبل أن يتخذه إماماً). ويكفي من شرف الإمامة أن صاحبها معصوم محفوظ بحفظ الله محاط بعنايته منذ كان نطفة إلى أن يلقى ربه، فلم يظلم ولم يهم بظلم لنفسه أو لغيره. واسمع معي، قال تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وهذا أكبر دليل على ما نقول. ويكفي أن يعرف المؤمنون عامة أن إبراهيم الخليل (عليه السلام) كان من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول تعالى: (وأن من شيعته لإبراهيم) صدق الله العلي العظيم. إن أهل البيت لا يقاس بهم أحد. هل يقاس الثرى بالثريا؟! هل يقاس زبل الغنم بحبات الألماس؟! إنه ليس هناك أهل طهر وطهارة إلا أهل البيت، وكلما التصقت بهم أفاضوا عليك من أنوارهم ما يطهر خبثك. واسمع معي قول النبي حينما أخذ الإمام الحسن تمرة من تمر الصدقات، حيث انفض النبي من مجلسه قائماً وأخذها وقال له: (كح.. إنما هي أوساخ الناس، لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)! إن أهل البيت منذ نشأت الرسالة وسيد العترة أمير المؤمنين كان مع أخيه النبي الكرمي خطوة بخطوة، اتباع الفصيل لأمه، كما قال (صلوات الله عليه)، توحيداً وعبادة وجهاداً وبلاغاً وبياناً ودفاعاً. وضع نصب عينيك قول النبي (صلّى الله عليه وآله): (لولا سيف علي ومال خديجة ما قامت للإسلام قائمة). فأهل البيت هم أهل الذكر والعلم وهم أهل الطهارة والقداسة. الدين الصحيح خرج من بيتهم، والعلم الصحيح نطقت به ألسنتهم، والصراط المستقيم ثبتت عليه أقدامهم، والبصيرة الصحيحة انطوت عليها قلوبهم. جسدهم جسد النبي، وعقلهم عقل النبي، ولسانهم لسان النبي، وأعضاؤهم أعضاء النبي، وأحكامهم أحكام النبي. وتأمل معي قول الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي حنيفة: (قبّل يد رسول الله) وأشار إلى يده الشريفة. فالاعتقاد الصحيح عند آل البيت، فمن أراد أن يفر إلى الله من أكاذيب أبي هريرة وخرافات ابن تيمية وسفهات ابن عبد الوهاب، عليه أن يلجأ إلى أهل البيت النبوي ويركب في سفينتهم لينجو من غضب الله وسخطه وعذابه وينجو من ضلالات المضلين وغشم المنحرفين. ولو حصل التعارض بين علماء الدنيا والسابقين واللاحقين وبين واحد من أئمة أهل البيت الميامين (صلوات الله عليهم أجمعين) وجب الانصراف عن كل علماء الدين والإعراض عنهم واتباع الإمام المعصوم من آل البيت، فأي عاقل لو عرضت عليه اتباع الصحابة والعلماء وأصحاب المذاهب والفقهاء والمحدثين والشيوخ ومشايخ الطرق الصوفية، أو عرضت عليك ترك هؤلاء واتباع الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً، لجلس تحت قدمي الإمام وقبل نعليه وقال: اتباعي لهذا الإمام خير لي وأفضل وأسلم لأنه في الدنيا إمام بن إمام ربّاه النبي على كتفه وشرب من رحيقه وأرضعه العلم والحلم والفتوة والحكمة، وهو معصوم ابن معصوم، فاتباعه في الدنيا فيه الهدى والفلاح والصلاح والسعادة، وفي الآخرة هو سيد شباب أهل الجنة، يشفع لأحبابه وأتباعه وينزلهم المنازل في الجنان. هذا شأن العقلاء، وغيرهم حمقى مجانين ضالين مضلين! وإن المحبة لآل البيت فقط لا تكفي، إذ إن الذين حاربوهم كانوا يمدحونهم وادعوا حبهم أيضاً! والصوفية يمدحونهم ليل نهار ومع ذلك فهم يترضون على أعدائهم.. فيا لهذا الغباء!
س: فما واجب الأمة تجاه أهل البيت (عليهم السلام)؟ ج: واجب الأمة تجاه آل البيت أمر ثقيل، فلابدّ من اعتقاد العصمة التامة والكمال المطلق والجنة الخالصة والاعتقاد بالإمامة الإلهية والحجية البالغة الربانية. وقبل كل ذلك البراءة من الأعداء الملاعين من أول كلب إلى آخر خنزير عليهم لعنة الله في كل نفس وحين، وحين ملئ السماوات والأرضين.
س: نلاحظ أن لهجتكم حادة كثيراً تجاه أعداء أهل البيت (عليهم السلام)! ج: إنهم يستحقون أكثر من ذلك. فقد شاء الله أن كل أمة عادت نبيها وكالت له وآذته، ولكن ما أوذي نبي مثل ما أوذي نبينا في نفسه وآل بيته، فقد دُبِّرت له صلوات الله عليه وآله أربعون مؤامرة لقتله، ونجاه الله. ثم ظلموه في أخيه أمير المؤمنين في حياته تكراراً واتهموه بأنه سدّ أبوابهم وترك باب أخيه وأخرجهم من المسجد وترك أخاه، وفي كل مرة يدفع الله أعلام آل البيت وينبه بمقامهم، ففي يوم المباهلة اجتمعوا ولقد لبسوا الجديد ومعهم نساؤهم وأبناؤهم ولكن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: (أين علي؟ ادعوا لي حسناً وحسيناً وفاطمة) ذلك لأن هؤلاء هم أهل الطهر وخاصة الخلق وأحباب الحق. هذا في حياة النبي، أما بعد وفاته، فإنهم قد انقضوا عليه في آل بيته، فأول ما قاموا به أن اغتصبوا مقام أخيه أمير المؤمنين الذي أقامه الله فيه وأخذوا الخلافة بمسرحية قذرة أقاموها في زريبة بني ساعدة! ثم انقضوا على الزهراء قرة عين المصطفى وفلذة كبده، فاغتصبوا حقها وميراثها وآذوها وشتموها في ملئهم وأحرقوا دارها وكسروا الباب على ضلعها وأسقطوا جنينها وجرى ما جرى عليها!! وغضبت الزهراء وعند غضبها يغضب الله، ومن يغضب الله عليه يستحق اللعن الدائم، فلعن الله من آذى النبي فيها، بأبي هي وأمي ماتت شهيدة.. (بكى الشيخ ولم يكمل).
س: ولكن هناك من يقول بأن على الشيعة ألاّ يتعرضوا بالنقد إلى الخلفاء حتى لا يثيروا حساسية مع أبناء العامة.. فما تعليقكم؟ ج: أذكر أنني في إحدى جولاتي في أمريكا حيث كنت مدعواً لإلقاء محاضرة عن سيدي ومولاي الإمام الحسن السبط صلوات الله وسلامه عليه، قال لي أحد علماء الشيعة من بريطانيا: (أرجو ألا تسب أحداً من الخلفاء حفظاً على علاقاتنا مع إخواننا السنة)! فأجبته قائلاً: (إنني لم أسب ولن أسب أحداً من الخلفاء، فإن الخلفاء - أيها الشيخ - ليسوا سوى الخلفاء الشرعيين المعروفين وهم الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.. إنني لا أعرف خلفاء غيرهم. أما من تتحدث عنهم فإنهم متخلفون عن بيعة أمير المؤمنين وهم أعداء أهل البيت. ثم فلتعلم - أيها الشيخ - أن إخواننا السنة سيزعلون منا أكثر يوم القيامة إذا لم نكشف لهم حقيقة من يتعبدون بهم)!!
س: ماذا عن الصحابة، ما هي النظرة المتوازنة التي ينبغي للمسلم أن ينظر بها إليهم؟ ج: الصحابة كلمة مبتدعة لم يرد بها القرآن ولم يرد بها حديث ثابت عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، بل وردت في حديث مكذوب هو (أصحابي كالنجوم..) وإنما الحديث الصحيح، (أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) لأن الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم مقامهم واحد وعقيدتهم واحدة وفقههم واحد وهدايتهم واحدة إذ هم صراط الله المستقيم. مَن هؤلاء الصحابة؟! أهم الجهلة الذين كانوا يلجأون إلى أمير المؤمنين في كل معضلة تشهد على جهلهم، وها هي كتبهم مشحونة (اللهم لا تبقني في قوم ليس فيهم أبو الحسن.. لو لا علي لهلك عمر.. كل الناس أفقه منك حتى..)! إن الذين يقولون بأن الصحابة عدول، فإني مستعد لمناقشة جميع علماؤهم على قنوات التلفزيون وفي مختلف وسائل الإعلام، وليأتوا بما لديهم لآت بما عندي، وقبل أن يأتوا إليّ فليقرأوا سورة التوبة والمائدة والمنافقون وليعدّوا كم من الصحابة آذى النبي بالقول والفعل، وكم منهم تبع هواه. وليقرأوا التاريخ بدقة، ليجدوا المخازي العظام!
س: ما قولكم في الحقيقة المحمدية؟ ج: نعم نؤمن بالحقيقة المحمدية اللطيفة الربانية، سر أسرار الله في الأكوان الدنيوية والأخروية. فإن الحقيقة المحمدية هي أعلى الحقائق ونحن نؤمن بها ونسأل الله تعالى أن يثبتنا عليها ويتوفنا على ذلك.
س: وما قولكم في الشيعة الإمامية؟ ج: الشيعة الإمامية هم أهل الإيمان وأهل الصلاح وهم خير البرية. نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم. والتشيع هو المدرسة العليا للفقه الإسلامي الصحيح، والحرية والفتوة، فالشيعة هم تلامذة أمير المؤمنين وجنود أبي عبد الله الحسين أبو الأحرار مؤسس الشيعة في دولة بني الإنسان، وهم أتباع صادق الأولين والآخرين مولانا جعفر بن محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وهم وارثوا علوم الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. ولكن لي على علماء الشيعة بعض المآخذ!
س: ما هي؟ ج: ركود وعدم تبليغهم الدين الصحيح لعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعدم انتباههم للحملة الشرسة التي يشنها الجهلاء على أحباب أهل البيت المؤمنين فيتهمونهم بأنهم يعبدون الحجر ويتهمون أمين الوحي بالخيانة ويعيبون علينا البكاء على الحسين سيد الشهداء وأفضل أبناء الأولين والآخرين أجمعين. إنني أتساءل: أين مال الخمس؟! لماذا لا تؤسس قناة تلفزيونية فضائية تبث إلى أنحاء المعمورة أحكام الدين الصحيح؟ وتكشف عن مظالم أهل البيت (عليهم السلام) وانتهاك حقوقهم من الملاعين الأوائل لعنة الله عليهم آناء الليل وأطراف النهار وكلما غرد الطير وناح الحمام! لماذا لا تطبع الكتب وتوزع بكميات مجانية كبيرة حتى تقام الحجة على جميع الخلق؟ وحتى يتبصر الأنام فيظهر الحجة الإمام صلوات الله عليه، فيمحو الظلام ويظهر العدل والسلام، وتشرق الأرض بنور ربها. يجب على علماء الشيعة وفقهائهم أن يشدوا المئزر حتى يسمعوا الدنيا كلها صوت الحق ويتركوا التقية للعامة الذين لا حجة لهم!
س: هل تجوز إمامة المفضول؟ ج: بالطبع لا، لأنه معلوم إذا حضر الماء بطل التيمم، وإذا كان الطبالون يقولون: (لا يفتنا أحد ومالك بالمدينة) فكيف تجوز إمامة غير الإمام والإمام حي يرزق؟! إن أمير المؤمنين (عليه السلام) إمام الخلق وولي الحق وهو لسان الصدق وصراط الله المستقيم، وقد اغتصب الفجار حقه في الإمامة والخلافة، فهو القرآن المهجور حيث يقول تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً)!
س: ما قولكم فيمن يرى أن آباء النبي صلوات الله عليه وآله كانوا كفاراً مشركين والعياذ بالله؟ ج: آباء النبي من لدن آدم إلى أبيه عبد الله كلهم مؤمنون موحدون وبالنصوص الصحيحة الصريحة، قال الله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ). وقوله صلوات الله عليه وآله: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار). فقوله أنا خيار من خيار دليل على أن آباءه مؤمنون موحدون لأن الكافر ليس خياراً بل هو شرارٌ، وقد نسب النبي نفسه النبوة لجده عبد المطلب فقام يوم حنين: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد الطلب). فأبوا النبي وعمه أبي طالب وحده عبد المطلب وأجداده إلى آدم أبو البشر، ما بين نبي ورسول وولي وحجة ووصي، صلى الله عليهم أجمعين. ومن قال غير ذلك فنقول له: عليك لعنة الله! لأن الله يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ) وها أنت تؤذي رسول الله بالطعن في عقيدة آبائه، كما آذاه من هم قبلك في اغتصاب إرث أبنائه! إن أصحاب الفيل لما جاءوا إلى مكة لم يذهب عبد المطلب (عليه السلام) إلى صنم حتى يدعو الله بجلائهم! وهو ما كانت العرب تفعله، بل ذهب إلى الكعبة وأمسك ببابها وتضرع إلى الله تعالى فاستجاب الله له فوراً، وأرسل الطير الأبابيل، وهذا دليل على أن عبد المطلب (عليه السلام) ولي من أولياء الله تعالى.
س: ماذا عن التشيع في مصر؟ ج: شعب مصر بطبيعته يحب آل البيت إلا عناصر الوهابية الخبيثة الذين يعتقدون أن زيارة الحسين موجبة لدخول النار كما يقولون ذلك على منابرهم! ولكن ينقص شعب مصر المعرفة والوعي، فلو عرفوا آل البيت حقيقة لتعبدوا بهم، ولو عرفوا أعداءهم لتبرءوا منهم ولعنوهم، والله قادر أن يكشف الغمة حتى يفيق الشعب ويعرف. وفي مصر مقام بُني باسم الإمام الحسين صلوات الله عليه، وحقيقة الأمر أن الحسين مقامه معروف أينما ذكر. صدق من قال: لا تطلبوا السيد الحسين بأرض شرقي أو أرض غربي، بل عرجوا عليه تجدوه في قلبي! كما أن في مصر مقام للعقيلة السيدة الطاهرة زينب والسيدة سكينة (عليهما السلام) ولكن حقيقة الأمر أنه ليس أحد من آل البيت مدفون في مصر سوى السيدة نفيسة (عليها السلام). هذا وقد بشّر أمير المؤمنين (عليه السلام) ببشارة ستتحقق إن شاء الله تعالى، فقال: (أرض مصر خير من أرض الشام، وأهل مصر خير من أهل الشام). اللهم عجل بالفرج.
س: قديماً كان الأزهر معتدلاً في ما يخص التعاطي مع المذهب الإمامي، لكنه اليوم بدأ في الاتجاه نحو التطرف حتى أن أحدهم وصف الشيعة في تصريح لمجلة (المجلة) السعودية بأنهم ذوو أصول يهودية! فما تفسيركم لهذا التحوّل من واقع أنكم من خريجي الأزهر بل من كبار علمائه؟ ج: علماء الزهر قديماً كان فيهم رجال مثل الشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ محمد عبده والشيخ سليم البشري والشيخ شلتوت، أما الآن فقد ضعفت الرجولة في رجاله! فمنهم من هو جاهل لا يعرف، ومنهم من يعرف ولا يتكلم، ومنهم من يتخبط وهو ضال مضل، وكيف تسألني عن رجل يحسب على البشرية إنساناً وهو يقول بلسان الكذب والبهتان والفجور: (سيدنا معاوية رضي الله عنه)! عليه لعنة الله وعلى كل الظالمين!!
س: ماذا عن صولاتكم وجولاتكم في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية؟ ج: صولاتي وجولاتي كثيرة ويصعب شرحها كلها، فجميع محافظات مصر ما عدا الغردقة والبحر الأحمر كانت لي فيها لقاءات وندوات عن ميلاد النبي وأمير المؤمنين (عليهما السلام)، أما خارج مصر فعلى مدى ست سنوات كنت أقضي شهر رمضان في أبو ظبي وكانت دروسي وخطب الجمعة ألقيها من مسجد بلال، وكانت تنقل على التلفزيون. وذات مرة استدعاني سمو الشيخ زايد رئيس البلاد في قصره ورحب بي وأعلمني إعجابه الشديد بندوة تلفزيونية تحدثت فيها عن فضائل سادتي آل البيت مع مجموعة من علماء مصر وسورية. كما كانت لي مناقشات ومناظرات مع علماء الوهابية في ساحة المسجد الحرام، وفي منى، وذهبت إلى ألمانيا وبريطانيا وكندا وأمريكا وحضرت مؤتمرات وندوات كثيرة في تلك البلدان.
س: فما هي رسالتكم وكلمتكم الأخيرة التي توجهونها إلى المسلمين؟ ج: الرسالة التي أوجهها إلى المسلمين هي أن يتمسكوا بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة الطاهرين أهل الطهارة والنزاهة والعصمة وأهل العلم والحلم والحكمة وفصل الخطاب، وإن يتبرءوا من كل أعداء النبي وأعداء آل بيته وإن يستعملوا العقول ويتفكروا ويتدبروا فإن الله لم يميزنا عن الحيوانات إلا بالعقل والفهم. وليسأل كل واحد نفسه: هل يمكن للأعمى أن يقود الأعمى؟ هل يمكن للناقص أن يكمل الناقص؟ هل يمكن للعاصي أن يأخذ بيد العاصي؟ هل يمكن للنجس أن يطهر النجس؟ لا والله. بل لابدّ من بصير خبير طاهر معصوم حتى يأخذ بأيدينا وليس ذلك إلا في أئمة آل البيت المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. اللهم عجل فرجنا بإمامنا حتى يخرج لنا كالبدر الساطع فيحل السلام والأمان، ويزول الظلام والزور والبهتان. اللهم آمين. عن مجلة المنبر |
حوار مع الكاتب المسيحي جورج جرداق |
حيثما تبحث عن العدالة ستجد علياً (عليه السلام)، وأينما تنقب عن الإنسانية فإنك لن تلاقي نظيراً له (عليه السلام). فهو النموذج الأرقى والمثل الأعلى.. ومَن مثله في إنسانيته وعدالته وأريحيته وأبوّّته وكرمه وشجاعته؟ وأين هم الخلق من علمه وأدبه وبلاغته وسعة صدره وحنانه؟ نعم.. أين هم؟ وأين هو أبو الحسن؟ وأين الثرى من الثريا؟ إنه (عليه الصلاة والسلام) تجسيد حقيقي لكل الفضائل الإنسانية، فإنك تجده رديفاً لكل منقبة وفضيلة، ولا يسعك إلا أن تعتبره بمثل تلك المعاني السامية التي تشخّصت فيه، فلم تعرف البشرية له مثيلاً.. تلك البشرية التي لو أنها أزالت تلك الغشاوة عن عينيها، لأدركت أنها خسرت علياً (عليه السلام) وأضاعته.. ولا تزال! ولأنه شعاع للقيم ونبراس للحضارة، تجد أن العظماء يتخلّون عن رداء عظمتهم أمامه! فلا يملكون إلاّ أن يطأطئوا الرؤوس وينحنوا إجلالاً وإكباراً له (صلوات الله عليه)! وأياً كانت عقيدة أولئك العظماء، أو ثقافتهم، أو أيديولوجيتهم، فإنهم - عندما يتعلق الأمر بابن أبي طالب - يستصغرون أنفسهم قدّامه، ولا يرون مندوحة من تعظيمه.. حتى أن العشق يتملكهم تجاه تلك الشخصية الرفيعة العملاقة! ومن لا يعشق مثله؟ وهل في هذه الدنيا مثله؟! لذا ترى العلماء والأدباء والمفكرين والساسة والمثقفين والأكاديميين.. وكل طلاب الحقيقة.. وجميع محبي المكارم.. من مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات الفلسفية والفكرية، يجلّون هذا العملاق العظيم الذي أذهل العالم وأظله بعدله وإنسانيته. وأحد هؤلاء هو المفكر والأديب المسيحي الشهير جورج جرداق، الذي دفعه (اكتشافه علياً من جديد) إلى أن يؤلف ستة مجلدات ضخمة قرأ فيها شخصيته (عليه السلام) الفذة، مقدماً هذا النتاج العلمي الواسع تحت عنوان (علي صوت العدالة الإنسانية)، ذلك الكتاب الذي ذاع صيته في كل الأنحاء فأحدث دوياً قل نظيره في عالم اليوم. (المنبر) كعادتها؛ ارتأت أن تجري لقاءً مع هذا الأديب الكبير للاقتراب من شخصيته أكثر فأكثر، فعرفناها شخصية محبة للحق والخير، ذلك الحب الذي دفعها لمثل هذا الإنجاز الكبير الذي يعتبره صاحبه ألصق أعماله ومؤلفاته بأعماقه. الأستاذ جرداق لم ير علياً (عليه السلام) كغيره بل رآه الصيغة الكونية المثلى للفكر الإنساني السامي، وضميراً عملاقاً للعدالة والحرية والمساواة. وهو يعتبر النهج العلوي هادفاً إلى إسعاد الناس وفق مبادئ الاجتماع التي تستوجب العدل والتكافؤ والتكامل، مشفوعة بإرادة السماء التي تقضي بالمحبة والرحمة واستصفاء الضمائر. فإلى نص الحوار: |
* بداية.. هل لنا ببطاقة تعريف شخصية لكم؟ ج: اسمي جورج سجعان جرداق، ولدتُ في جديدة مرجعيون بلبنان الجنوبي، في بقعة من أجمل بقاع الأرض وأحفلها بأحداث التاريخ وذكريات السابقين، وفي أسرة غسّانية قحطانية الجذور، وربيت في بيئة عامّة عربية القلب واللسان، وبيئة خاصة طبعت على الميل إلى طلب المعرفة. وكان لشقيقي الأكبر، العالم اللغوي والشاعر والمهندس فؤاد جرداق، تأثير خاص في توجيهي منذ الطفولة. تلقيت دروسي الأولى في إحدى مدارس بلدتي التي عرف أبناؤها بميلهم الشديد إلى العلم، ومن بينهم ميخائيل الدبغي أكبر علماء الطب بالعالم في القرن العشرين. وكنت في أثناء ذلك أهرب من المدرسة عندما أستطيع الهروب... وأحمل كتابين اثنين هما ديوان المتنبي، ومجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي، وألجأ إلى كنف من أكناف الطبيعة الجميلة حيث أجلس تحت شجرة ظليلة أو على مقربة من مياه جارية، وأرضنا هناك ملأى بالمروج الخضراء وبالينابيع المتدفقة التي تعد بالمئات، مما أعطى البلدة، والمنطقة كلها من خلالها، اسم مرج العيون، أو مرجعيون، إشارة إلى وفرة المروج وكثرة الينابيع. وهناك آخذ بقراءة هذين الكتابين في نهم. وذات مرة رآني شقيقي فؤاد في هذه الحال، فشجعني على المضي في ما أنا فيه ولو اضطررت إلى الهروب من المدرسة أحياناً، ثم جاءني بكتاب (نهج البلاغة) وقال لي: أدرس هذا الكتاب بصورة خاصة، واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه فإن فيه الخير كل الخير لمن يطلع عليه ويحفظ ما فيه. ولما كانت ذاكرتي جيدة، فإنني لم أبلغ الثالثة عشرة من عمري حتى كنت أحفظ غيباً الكثير من الكتب الثلاثة المذكورة، ومن نهج البلاغة بصورة خاصة، ولا تزال هذه المحفوظات مخزونة في ذاكرتي حتى اليوم. بعد ذلك شاء نسيبي منصور جرداق أحد كبار علماء الرياضيات في هذا العصر، لا في الشرق العربي وحده بل في العالم، أن يبعثني إلى أوروبا لأدرس العلوم الطبيعية والرياضية. غير أني أبيت ذلك لتعلقي الشديد ببلدتي وبيئتها الطبيعية والروحية، ثم لميلي الشديد إلى الشعر والأدب. وعلى أثر هذا (الإباء) انتقلت إلى بيروت حيث تابعت دروسي في الكلية البطريركية المشهورة بتخريج أقدر الطلاب باللغة العربية وآدابها. وقد حملني على إيثار هذه المدرسة بالذات ما عرفته يومذاك من تاريخها في هذا الباب الذي أشرت إليه. ومما عرفته أن الشيخ إبراهيم اليازجي، أكبر علماء العربية على الإطلاق على مدى ألفي عام، كان في قديم الزمان أحد أساتذتها، وابن خليل مطران شاعر القطرين الشهير كان من تلامذتها، ومن تلامذة الشيخ إبراهيم اليازجي بالتحديد. وقد شاقني تاريخ هذه المدرسة التي شاع أنها تحافظ على نهجها هذا في تدريس العربية، فضلاً عن شهرة أساتذتها في تدريس اللغة الفرنسية. في أثناء دراستي بالكلية البطريركية، كان من أساتذتي الأديب المعروف رئيف خوري، وعلامة العصر فؤاد افرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية وأول رئيس لها، والمرجع الكبير للغة العربية وآدابها. وكان أستاذي باللغة الفرنسية والأدب الفرنسي الشاعر - باللغة الفرنسية - ميشال فريد غريب. وفي هذه الأثناء، وكنت في الثامنة عشرة من عمري، ألفت كتابي الأول الذي يحمل هذا الاسم (فاغنر والمرأة) وفاغنر هو الشاعر الفيلسوف الألماني الشهير. وقد نُشر هذا الكتاب في (دار المكشوف) للشيخ فؤاد حبيش. ويبدو أن في هذا الكتاب من إشراق البيان العربي ما طاب للعلامة الكبير الشيخ عبد الله العلايلي غفر الله له، وحمله على أن يهتف قائلاً: (لا مثيل لهذا البيان في أدب عصرنا كله إنه كما رأى الدكتور طه حسين، غفر الله له، أن يدرج هذا الكتاب في قائمة المؤلفات المعدودة التي ينبغي لطلاب الأدب الجامعيين الإطلاع عليه). بعدما تخرجت من الكلية البطريركية، بدأتُ عملين اثنين معاً: الكتابة المتواصلة في الصحف اللبنانية والعربية، وتدريس الأدب العربي والفلسفة العربية، في عدد من كليات بيروت. من الصحف التي كتبت فيها بصورة متواصلة: الجمهور الجديد، الحرية، الصياد، الشبكة، نساء، الكفاح العربي، الأمن، بعض الصحف العربية الصادرة في باريس. وقد كتبت سنتين وبلا انقطاع في جريدة (القبس) الكويتية، وسنة في جريدة (الوطن) الكويتية، وبعض الوقت في جريدة (الرأي العام). فضلاً عن صحف كثيرة في مصر وسوريا كتبت فيها بصورة متقطعة. أما اليوم، فإني أكتب بصورة دائمة في صحف دار الصياد، وفي الكفاح العربي، والأمن. أضف إلى ذلك برامج إذاعية منها ما هو يومي ومنها ما هو أسبوعي، بينها برنامج يومي في كبرى إذاعتنا المعروفة باسم (صوت لبنان) وهو البرنامج الذي يحمل اسم (على طريقتي) والذي بدأته منذ خمسة عشر عاماً ولا يزال مستمراً برغبة وإلحاح من إدارة الإذاعة ومن المستمعين. ومن المعروف أن كل ما أكتبه في الصحف وأبثه في الإذاعات لا يخضع لأي نوع من المراقبة. وهذا هو شرطي الأول والأساسي في عملي بالصحف وسائر وسائل الإعلام. في هذه الأثناء وضعت سلسلة كتبي عن الإمام علي وهي التالية: (عليّ وحقوق الإنسان)، (بين عليّ والثورة الفرنسية)، (علي وسقراط)، (علي وعصره)، (علي والقومية العربية)، ثم أتبعتها بملحق كبير بعنوان (روائع النهج) الذي طبع أربع مرات في ثلاث دور نشر بسنة واحدة، وهي (دار النهار) في بيروت، و(دار الشروق) في مصر، و(دار الغدير) في بيروت. ومن كتبي الصادرة هنا وهناك، بعد (فاغنر والمرأة) ومجلدات الإمام علي: قصور وأكواخ. رواية تاريخية من ألف صفحة بعنوان صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد. نجوم الظهر. عبقرية العربية، صبايا ومرايا، وجوه من كوتون، حديث الحمار، حكايات. كما أن لي مؤلفات مسرحية عدة، ومسلسلاً تلفزيونياً كنت كتبت قصته. س : كيف تعرفتم على شخصية الإمام علي (عليه السلام)؟ متى وأين؟ بدأ تعرفي، مبدئياً، على هذه الشخصية العظيمة منذ طفولتي يوم جاءني شقيقي فؤاد بنهج البلاغة وقال لي: أدرس هذا الكتاب واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه، كما سبق أن قلت في أوائل هذا الحديث. أضف إلى ذلك أن لشقيقي فؤاد قصائد كثيرة في الإمام علي يتحدث بها عن عبقريته وسمو فكره وعظمة مبادئه الإنسانية، وعن سيرته المشرّفة، وكنت أنا أصغي إليه في اهتمام كثير وهو ينشدها على مسامع زوار البيت. وقد أثبت واحدة منها في أواخر المجلد الخامس من كتبي عن الإمام، وهو المجلد الذي عنوانه (علي والقومية العربية)، وفي إمكانك الإطلاع عليها. وهكذا رسخت صورة الإمام علي في مخيلتي منذ الصغر، كما ترسخ في مخيلة الولد الأقوال والأعمال والصور التي تؤثر فيه. ودارت الأيام، وتخرجت من الكلية البطريركية في بيروت كما سبق أن قلت، وأخذت أدرس الأدب العربي والفلسفة العربية في بعض معاهد بيروت. ونتاج الإمام علي الأدبي والفكري مطلوب في هاتين المادتين - الأدب العربي والفلسفة العربية - وفق البرنامج المقرر. ولما كان ما يحتفظ به الإنسان منذ طفولته من خواطر ومشاعر غير كاف في مجال التدريس، وكان لابد له من الإطلاع من جديد إطلاعاً واعياً وشاملاً على شخصية الأديب أو الفيلسوف الذي يتحدث عنه للطلاب، فقد تهيأ لي أن أفضل ما ألجأ إليه في هذا الباب هو الاطلاع على آراء دارسي الإمام، وعلى الكتب التي وضعت عن شخصيته الأدبية والفكرية والاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك، لتضاف إلى ما هو راسخ في ذهني ومخيلتي من عناصر هذه الشخصية منذ الطفولة. والاطلاع على آراء الكتاب والمؤرخين في شخصية مفكر أو فيلسوف يُعنى المرء بتدريسها للطلاب، أمر معروف ومألوف لأنه ضروري، وهكذا أخذتُ أقرأ ما كتب عن الإمام في مؤلفات السابقين والمعاصرين. وبعد الإطلاع على هذه المؤلفات تبين لي أن معظم ما قرأته يدور حول أمور تاريخية محدودة بزمان ومكان معينين، وقد تعني فئة من الناس في بعض مراحل التاريخ ولا تعني جميع الناس في كل الأزمنة، وأكثره يدور حول حقه في الخلافة ومقدار هذا الحق في نظر المؤلفين ولكل منهم دوافع تحركه ولا علاقة متينة لها بالموضوعية التي تدور في نطاق الفكر العلوي بحد ذاته، وبنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، وشروط الحياة التي لابد من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعاً سليماً في تركيبه، معافى في مسيرته، كريماً في غايته. وارتأيت أن أعود إلى نهج البلاغة فأقرأه من جديد قراءة واعية تكون أوفى بالمراد من قراءتي له في السن المبكرة. فقرأته من جديد، فتبين لي أن الإمام أعمق وأعظم من كل ما دارت حوله أبحاث الباحثين من قدامى ومحدثين، وأن إنسانية الإمام، بكل عناصرها ودعائهما، تنبثق من فكر صاف وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي، وأن ما دعا إليه، بمبادئه وسيرته، يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى كل زمان وكل مكان، فعلامَ يحصرون هذه الشخصية العظيمة النادرة بموضوع الولاية.. وسائر الموضوعات المحلية التي تدور عليها أبحاث معظم المؤلفين الذين قلت إنني قرأتهم. وهكذا ارتأيت، بدافع من حبي للحقيقة، أن أضع كتاباً موسوعياً يكون فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة، وبعض الإنصاف لها، واستدراك ما أهمله المؤلفون. فكان المجلد الأول بعنوان (علي وحقوق الإنسان) الذي أثبت فيه بالدلائل الساطعة أن علياً سبق مفكري أوروبا والعالم إلى إدراك هذه الحقوق بمفهومها الثابت، وإلى إعلانها، بقرون عديدة. وكان المجلد الثاني بعنوان (بين علي والثورة الفرنسية) وفيه تأكيد على السبق الذي حققه الإمام على فلاسفة الثورة الكبرى العظام. وكان المجلد الثالث بعنوان (عليّ وسقراط) والمعروف أن سقراط هو أبو الفلاسفة الإنسانيين الكبار. وقد كشفتُ أن سقراط والإمام علي يلتقيان على كل صعيد. إلى آخر السلسلة التي تتألف من ستة مجلدات يحمل آخرها عنوان (روائع النهج). * ما نظرتك الشخصية للإمام (عليه السلام)؟ ج: هذه المجلدات الستة التي وضعتها عن الإمام، أليست كافية لأن تعرّفك بـ(نظرتي الشخصية) إليه؟ أما إذا شئت جواباً موجزاً جداً عن هذا السؤال، فإني أقول: إن علياً هو الصيغة الكونية المثلى للفكر الإنساني المستمد من نواميس ثابتة لا يبدل المكان من جوهرها كثيراً أو قليلاً، ولا الزمان! كما أنه الصيغة الكونية للمضير العملاق والشعور العميق بوحدة الكائنات المتكافئة المتفاعلة المتكاملة! * لماذا اخترت وصف العدالة الإنسانية.. هل لأنك تجد علياً (عليه السلام) يمثل قيمة العدالة بأكمل صورها؟ ج: هل لديك أو لدى سواك كلمات أدق تعبيراً عن شخصية الإمام علي كما هي في الواقع، وعن سيرته كما رأيتها وتحدثت عنها في هذا الكتاب بأجزائه الستة، من (صوت العدالة الإنسانية؟!) في هذه التسمية إشارة واضحة إلى المدلول العام للكتاب. * ما هي آثار ظهور الكتاب؟ وكيف كانت ردود الفعل في العالمين المسيحي والإسلامي بشقيه الشيعي والسني؟ ج: أول هذه الآثار أن تاجر كتب عراقياً هو صاحب مكتبة (المثنى)، أعاد طبعه في بغداد من دون علمي بعد صدوره بأقل من شهر واحد، وشحن منه عشرات الآلاف من النسخ إلى بعض دول الشرق الأقصى، فضلاً عما ملأ به مكتبات العراق. وثاني هذه الآثار أنهم ترجموه في بعض بلدان الشرق إلى لغات أجنبية من دون علمي كذلك. وثالث هذه الآثار إعادة نشره في بيروت مراراً من دون أن أحاط علماً بهذه الإعادات، أي خفية عني. وكان الدافع في هذه الأعمال (الكريمة) كلها، الجشع التجاري لدى بعض دور النشر في هذا الشرق السعيد. وأخبرك بأنني اشتري بعض هذه الطبعات بالعربية، وببعض اللغات الأجنبية، من المكتبات إذ أن الناشرين والمترجمين الكرام لم يتكرموا حتى بإرسال نسخة واحدة لي مما ينشرونه بأعداد لم يعرفها كتاب آخر، عربياً كان أو مترجماً. هذا بعض ما كان، وما هو كائن الآن، من قِبَل تجار الكتب. أما كيف استقبله العالم المسيحي، فينبئك بالأمر ما فعله أحد الآباء بلبنان: في أثناء تأليف الكتاب، جاءني رئيس تحرير مجلة (الرسالة) اللبنانية، وهو صديق كريم، وطلب إليّ أن أعطيه فصلين اثنين على الأقل من الفصول التي انتهيت من كتابتها. فلبيت رغبته، فنشر الفصلين في عددين من المجلة. واتفق للراهب العالم الأب نجم رئيس مدرسة الرهبان الكرمليين في مدينة جونية، أن قرأ هذين الفصلين في المجلة المذكورة، فطاب له الموضوع، كما طاب له الأسلوب الذي عولج به، فاتصل برئيس تحرير (الرسالة) ليخبره بأنه يريد أن يطبع هذا الكتاب بأجزائه كلها عندما أنتهي أنا من تأليفه كاملاً، على نفقة الرهبانية. وهكذا كان. فقد طبعه الأب نجم على نفقته كما أراد وأصرّ على إجراء ما أراده. وبعدما نُشر الكتاب بمدّة وجيزة وبيعت منه كمية كبيرة، أبى الراهب النبيل أن يسترد قرشاً واحداً من ثمن الورق وتكاليف الصف والطباعة وكانت كثيرة، وقال: لقد نشرت هذا الكتاب تكريماً للإمام علي، وإعجاباً بأسلوب المؤلف وصدقه في ما يرى ويكتب. وعلى هذا، يمكنكم أن تسلموا هذا المبلغ الذي تحملونه إليّ، لإحدى الجمعيات الخيرية إذا شئتم. وكان له ما نصح به. ثم عليك أن تقرأ ما قاله أديب الشرق الأكبر ميخائيل نعيمة في هذا الكتاب عند صدوره، وما كتبه الأدباء المسيحيون العرب فيه، وكل ذلك مثبت في الجزء الخامس من الكتاب، لتعلم كيف استقبله العالم المسيحي. أما في العالم الإسلامي، فما عليك إلاّ أن تقرأ كذلك فصل (قالوا في هذا الكتاب) بالجزء الخامس منه، لتعلم كيف استقبله العلماء والمفكرون والأدباء من المسلمين العرب والأعاجم، ومن الشيعة بصورة خاصة، وفي طليعتهم كبار الأئمة في ديار العرب وإيران وبعض بلدان الشرق الأقصى. وفي كل ما قالوه، إجماع على أنه الكتاب الوحيد الذي يكشف النقاب عن حقيقة الإمام علي، وعن عبقريته النادرة، ولا يقاس به كتاب آخر قديم أو جديد، لا من قريب ولا من بعيد. * هل حققت ذاتك عبر هذا الكتاب؟ وماذا عن الأهداف، هل تراها تحققت على أرض الواقع؟ ج: الكاتب، عندما يكون صادقاً مع نفسه وفي التعبير عما يجول في أعماقه من خواطر ومشاعر، يحقق ذاته بكل ما يكتب. وبين كتبي الكثيرة المنشورة والمعدّة للنشر، ليس هنالك كتاب ألصق بأعماقي من هذا الكتاب. أما سؤالك عما إذا كانت الأهداف من هذا الكتاب قد تحققت على أرض الواقع، فأجيب عنه قائلاً: ليس في إمكانية الكاتب أو صاحب الرأي، أيّاً كان وحيث كان، أكثر من أن يكون صادقاً في ما يرى ويكتب، وجريئاً حتى أقصى حدود الجرأة في عرض ما يراه، أما تحقيق ما يصبو إليه على أرض الواقع، فأمر يتعلق بأنظمة المجتمعات، وسلطاتها، وأحوالها العامة التي توجهها، وعلى هذا، أسألك: هل قرأت رسالة الإمام علي إلى الأشتر النخعي عامله على مصر؟ بعد ذلك، اسأل نفسك: من ألف وأربعمائة سنة مضت على صدور هذه الرسالة، الدستور الذي لا تجد أرقى منه في دساتير الأمم جميعاً، حتى يومنا هذا، ما الذي طبّق منها على أرض الواقع في ديار هذا الشرق؟! * ما موقع الإمام علي (عليه السلام) في الفكر المسيحي؟ ج: إذا ما اطلعنا على بعض الآداب الأوروبية في العصور الوسطى، لاسيما الأدب الإيطالي المعبر أكثر من سواه عن الأفكار والمعتقدات في العالم المسيحي يومذاك، نعلم أن الفكرة التي كانت لدى الكثيرين من الناس عن الإمام علي أنه قدّيس مسيحي، لما في أقواله ومنهجه من شبه بتعاليم المسيح. ومما يجدر ذكره في هذا الباب أن للإمام علي صورة في إحدى الكنائس القديمة بإيطاليا. وهنا في بيروت، في صدر صالة الاستقبال الكبرى بمدرسة (زهرة الإحسان) التابعة لمطرانية الروم الأرثوذوكس، تجد صورة واسعة المساحة للإمام علي. وإذا نحن قرأنا ما كتبه المؤرخ والباحث الفرنسي البارون كارا ديفو عن الإمام علي في القرن الأسبق، نعلم أن مكانة رفيعة يحتلها في نفسه وفي نفوس عارفي الإمام من بني قومه. أما الأدباء والمفكرون المسيحيون العرب، فلاشك أنك تعلم ما هي منزلة الإمام علي لديهم. ولهذه الغاية يكفيك أن تقرأ جرجي زيدان في رواياته التاريخية المعروفة، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود وبولس سلامة وفؤاد جرداق وعبد المسيح محفوظ وكثيرين غيرهم، في آثارهم النثرية والشعرية. وقد سبق أن رويت لك أن الذي طبع كتبي عن الإمام علي على نفقته الخاصة، أو على نفقة المؤسسة التي يرأسها، إعجاباً بالإمام علي وإكراماً وحباً، هو راهب مسيحي لبناني. وليس من عجب في هذا الواقع بعد أن تقرأ في كتب الحديث أن النبي محمداً نظر ذات مرة طويلاً إلى عليّ، وهو أعرف الخلق بطويته وهويته وحقيقته، ثم قال له: (يا علي، إن فيك لشَبهاً من عيسى ابن مريم!). إن الإنسان عندما يبلغ درجة عالية من الإدراك، يصبح موضوعياً، أياً كان المعتقد الفلسفي أو الاجتماعي أو الديني الذي نشأ عليه. وعلى هذا، ليس في أصحاب المعرفة من لا يوالي القيم الحقيقة حيث كانت ومن حيث أتت. * النتاج الحضاري الذي قدمه الإمام علي للإنسانية هل ترونه يمثل فكراً محضاً أم منهجاً مرتبطاً بالسماء؟ ج: في الأساس، ليس هنالك شيء اسمه (فكر محض!) فالفكر ينبع من معادلات واقعية كثيرة، ومن ملاحظة النواميس الثابتة في الطبيعة والحياة وفق قدرة المفكر على الملاحظة، وينهج نهجاً مرتبطاً بالناس ومصائرهم وغايتهم من الحياة أو غاية الحياة منهم. وعلى هذا، ترى أن النهج العلوي ينبعث من الملاحظة الدقيقة والعميقة للنواميس الثابتة، ثم من نظرته إلى المجتمع الإنساني وهي نظرة منسجمة مع ما لاحظه من نواميس كونية ثابتة، ويهدف إلى إسعاد الناس إسعاداً يقوم على بناء الفرد والمجتمع بناءً سليماً يستند إلى ما تقرّره إرادة الحياة ومبادئ الاجتماع التي تستوجب العدل والتكافؤ والتكامل مشفوعة بإرادة السماء التي تقضي بالمحبة والرحمة واستصفاء الضمائر. * أين تكمن موقعية نهج البلاغة في الفكر الإنساني؟ ج: موقعية نهج البلاغة في الفكر الإنساني هي في القمة. فجميع القيم الرفيعة والمبادئ السامية التي سعى المفكرون وعلماء الاجتماع إلى إدراكها وإشاعة مفهومهاً لدى الآدميين عبر عشرات القرون، تراها كلها في نهج البلاغة. وقد تحدثتُ عن هذا النهج في ستة مجلدات لا يمكن إيجازها بكلمات... فعد إلى هذه الكتب الستة إذا شئت الجواب مفصّلاً ووافياً. * ما معنى التشيّع في مفهومكم الذي توصلتم إليه؟ ج: معناه إنكار كل ما يؤذي الإنسان فرداً وجماعة من أنظمة وقوانين اجتماعية وسياسية، ورفض استغلال إنسان لإنسان أو فئة لفئة، والثورة على كل منكر من أعمال السلطات مهما بلغت هذه السلطات من القوة والشدة في المحافظة على مصالحها ووجودها على ما هي عليه. وأحداث التاريخ في الشرق كلها تدل على هذا المفهوم وهذا الواقع. وما ثورة التشيع والمتشيعين على مظالم الحكام في التاريخ إلاّ الوجه الآخر للرحمة والمحبة والميل إلى العدالة بين الناس، وللعطف على المستضعفين ومقاومة الظلم وإزالة أسبابه ونتائجه. والعواطف الكريمة لا تساير ولا تداور بل تمشي في طريقها ولو محفوفة بالمخاطر. * هل ترون أن هذا العالم سليم الصياغة؟ وهل تدعون إلى إعادة صياغته وفق منهج الإمام علي (عليه السلام)؟ ج: من سوء حظ الإنسان أن صياغة العالم في معظم مراحل التاريخ ومعظم أقاليم الأرض، جُعلت وفق مصالح المنتفعين بآفتين غائلتين هما السياسة والتجارة: السياسة كما فُهمت ومُورست في معظم أصقاع الأرض حتى الآن، والتجارة التي هي آفة الآفات في تاريخ الأمم وفي حاضرها، وسبب الأسباب في ويلات الشعوب. ولن يصلح العالم إلاّ بأن يتولى إدارته وأموره جميعاً اثنان لا ثالث لهما: عالم وأديب! عالم هو الفكر النيّر والنهج والمقياس، وأديب هو الفكر النيّر والقلب الخيّر والضمير والرحمة والإحساس بالوجود وقدسية الحياة. والإمام علي، في سيرته ونهجه، هو هذا العالم وهذا الأديب مجتمعين في شخصية واحدة! عن مجلة المنبر |