استنتجت من خلال البحث أن مصيبة الامة الاسلامية انجرت عليها من
الاجتهاد الذي دأب عليه الصحابة مقابل النصوص الصريحة فاخترقت بذلك
حدود الله ومحقت السنة النبوية وأصبح العلماء والائمة بعد الصحابة يقيسون على
اجتهادات الصحابة ويرفضون بعض الاحيان النص النبوي إذا تعارض مع ما
فعله أحد الصحابة ، أو حتى النص القرآني ولست مبالغا وقد قدمت كيف أنهم
رغم وجود النص على التيمم في كتاب الله وسنة الرسول الثابتة رغم كل ذلك
اجتهدوا ، فقالوا بترك الصلاة مع فقد الماء وقد علل عبدالله بن عمر اجتهاده
بالنحو الذي أشرنا إليه في مكان آخر من بحثنا .
ومن أول الصحابة الذين فتحوا هذا الباب على مصراعيه هو الخليفة الثاني
الذي استعمل رأيه مقابل النصوص القرآنية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فعطل سهم
المؤلفة قلوبهم الذين فرض الله لهم سهما من الزكاة وقال : لا حاجة لنا فيكم .
أما اجتهاده في النصوص النبوية فلا يحصى وقد اجتهد في حياة الرسول
نفسه وعارضه عدة مرات .
وقد أشرنا في ماسبق إلى معارضته في صلح الحديبية وفي منع كتابة الكتاب
وقوله حسبنا كتاب الله وقد وقعت له حادثة أخرى مع رسول الله صلى الله عليه وآله لعلها تعطينا
صورة أوضح لنفسية عمر الذي أباح لنفسه أن يناقش ويجادل ويعارض صاحب
الرسالة تلك هي حادثة التبشير بالجنة إذ بعث رسول الله أبا هريرة وقال له من
( 198 )
لقيته يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة ، فخرج ليبشر فلقيه
عمر ومنعه من ذلك وضربه حتى سقط على استه ، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله
وهو يبكي وأخبره بما فعل عمر فقال رسول الله لعمر ما حملك على ما فعلت ؟
قال : هل أنت بعثته ليبشر بالجنة من قال لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه ؟ قال
رسول الله نعم ، قال عمر : لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس على لا إله إلا
الله ! .
وهذا ابنه عبدالله بن عمر يخشى أن يتكل الناس على التيمم فيأمرهم بترك
الصلاة ، وياليتهم تركوا النصوص كما هي ولم يبدلوها باجتهاداتهم العقيمة التي
تؤدي إلى محو الشريعة وانتهاك حرمات الله وتشتيت الامة في متاهات المذاهب
المتعددة والآراء المتشعبة والفرق المتناحرة .
ومن مواقف عمر المتعددة تجاه النبي وسنته نفهم بأنه ما كان يعتقد يوما
بعصمة الرسول بل كان يرى أنه بشر يخطئ ويصيب .
ومن هنا جاءت الفكرة لعلماء السنة والجماعة بأن رسول الله معصوم في
تبليغ القرآن فقط وما عدا ذلك فهو يخطئ كغيره من البشر ويستدلون على ذلك
بأن عمر صوب رأيه في العديد من القضايا .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله - كما يروي البعض من الجهلة - يقبل مزمارة
الشيطان في بيته وهو مستلق على ظهره والنسوة يضربن الدفوف والشيطان يلعب
ويمرح إلى جانبه حتى إذا دخل عمر بن الخطاب هرب الشيطان وأسرع النسوة
فخبأن الدفوف تحت استهن وقال رسول الله لعمر ما رآك الشيطان سالكا فجا
حتى سلك فجا غير فجك .
فلا غرابة إذا أن يكون لعمر بن الخطاب رأي في الدين وأن يسمح لنفسه
بمعارضة النبي في الامور السياسية وحتى في الامور الدينية كما تقدم في تبشير
المؤمنين بالجنة .
ومن فكرة الاجتهاد واستعمال الرأي مقابل النصوص نشأت أو تكونت
مجموعة من الصحابة وعلى رأسهم عمر بن الخطاب وقد رأيناهم يوم الرزية كيف
( 199 )
ساندوا وعضدوا رأي عمر مقابل النص الصريح .
ومن ذلك أيضا نستنتج أن هؤلاء لم يقبلوا يوما نصوص الغدير التي نصب
بها النبي صلى الله عليه وآله عليا خليفة له على المسلمين ، وتحينوا الفرصة السانحة لرفضها
عند وفاة النبي فكان اجتماع السقيفة وانتخاب أبي بكر من نتيجة هذا الاجتهاد ،
ولما استتب لهم الامر وتناسى الناس نصوص النبي بشأن الخلافة ، بدأوا
يجتهدون في كل شيء حتى استطالوا على كتاب الله فعطلوا الحدود وأبدلوا الاحكام
فكانت مأساة فاطمة الزهراء بعد مأساة زوجها وإبعاده عن منصة الخلافة ، ثم كانت
مأساة قتل مانعي الزكاة ، وكل ذلك من الاجتهاد مقابل النصوص ، ثم كانت
خلافة عمر بن الخطاب نتيجة حتمية لذلك الاجتهاد إذ أن أبابكر اجتهد برأيه
وأسقط الشورى التي كان يستدل بها هو نفسه على صحة خلافته وزاد عمر في
الطين بلة عندما ولي اُمور المسلمين فأحل ما حرم الله ورسوله (1) وحرم ما أحل الله
ورسوله (2).
ولما جاء عثمان بعده ذهب شوطا بعيدا في الاجتهاد فبالغ أكثر ممن سبقوه
حتى أثر اجتهاده في الحياة السياسة والدينية بوجه عام فقامت الثورة ودفع حياته
ثمن اجتهاده .
ولما ولي الامام علي أمور المسلمين وجد صعوبة كبيرة في إرجاع الناس إلى
السنة النبوية الشريفة وحظيرة القرآن وحاول جهده أن يزيل البدع التي أدخلت في
الدين ولكن بعضهم صاح واسنة عمراه ! وأكاد اعتقد وأجزم بأن الذين حاربوا
الامام عليا وخالفوه ، إنما فعلوا ذلك لانه - سلام الله عليه - حملهم على الجادة
وأرجعهم إلى النصوص الصحيحة مميتا بذلك كل البدع والاجتهادت التي
ألصقت بالدين طوال ربع قرن وقد ألفها الناس وخاصة منهم أصحاب الاهواء
والاطماع الدنيوية الذين اتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا وكدسوا الذهب
والفضة وحرموا المستضعفين من أبسط الحقوق التي شرعها الاسلام .
____________
( 1 ) كقضية إمضائه الطلاق الثلاث صحيح مسلم باب الطلاق الثلاث سنن أبي داوود ج 1 ص 344 .
( 2 ) كتحريمه متعة الحج ومتعة النساء صحيح مسلم كتاب الحج صحيح البخاري كتاب الحج باب
التمتع .
( 200 )
وقد نجد أن المستكبرين في كل عصر يميلون إلى الاجتهاد ويطبلون له لانه
يفسح لهم المجال للوصول إلى مآربهم من كل طريق . أما النصوص فتقطع عليهم
وجهتهم وتحول بينهم وبين ما يرومون .
ثم أن الاجتهاد وجد له أنصارا في كل عصر ومصر حتى من المستضعفين
أنفسهم لما فيه من سهولة التطبيق وعدم الالتزام .
ولان النص فيه التزام وعدم حرية وقد يسمى عند رجال السياسة الحكم
الثيوقراطي يعني حكم الله ولان الاجتهاد فيه حرية وعدم إلتزام بالقيود وربما
يسمونه الحكم الديمقراطي يعني حكم الشعب فالذين اجتمعوا في السقيفة بعد
وفاة النبي صلى الله عليه وآله ألغوا الحكومة الثيوقراطية التي أسسها رسول الله على مبدأ
النصوص القرآنية ، وأبدلوها بحكومة ديمقراطية يختار الشعب فيها من يراه صالحا
لقيادته ، على أن أولئك الصحابة لم يكونوا ليعرفوا كلمة « الديمقراطية » لانها
ليست عربية ولكنهم يعرفون نظام الشورى (1).
فالذين لا يقبلون النص على الخلافة - اليوم - هم أنصار « الديمقراطية »
ويفتخرون بذلك مدعين أن الاسلام هو أول من ارتأى هذا النظام ، وهم أنصار
الاجتهاد والتجديد وهم اليوم أقرب ما يكونون من النظم الغربية ولذلك نسمع
اليوم من الحكومات الغربية تمجيدا لهؤلاء وتسميتهم بالمسلمين المتطورين
والمتسامحين .
أما الشيعة أنصار « الثيوقراطية » أو حكومة الله والذين يرفضون الاجتهاد
مقابل النص ويفرقون بين حكم الله والشورى ، فالشورى عندهم لا علاقة لها
بالنصوص وإنما الاجتهاد والشورى في ما لا نص فيه ، أفلا ترى أن الله سبحانه
____________
( 1 ) رغم أنه في الواقع لم يحصل حتى هذا النوع من الانتخاب إذ أن الذين انتخبوا لا يملكون حق تمثيل
الامة بأي وجه من الوجوه علاوة على غياب الكثيرين من وجوه المسلمين الذين لهم حق الانتخاب
فكانت كما جاء في الشعر المسنوب إلى أمير المؤمنين يخاطب أبا بكر :
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فـكـيـف بـهذا والمـشـيرون غــيـب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فـغـــيـرك أولـى بالـنبـي وأقــرب
( 201 )
هو الذي اختار رسوله محمدا ومع ذلك قال له : (
وشاورهم في الأمر
)(1) .
أما في ما يتعلق باختيار القادة الذين يقودون البشرية فقال : ( وربك يخلق
ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)(2) .
فالشيعة إذ يقولون بخلافة الامام علي بعد رسول الله إنما يتمسكون بالنص
وهم إذ يطعنون في بعض الصحابة إنما يطعنون في الذين أبدلوا النص بالاجتهاد
فضيعوا بذلك حكم الله ورسوله ، وفتحوا في الاسلام رتقا لم يلتئم حتى اليوم .
ومن أجل هذا أيضا نجد الحكومات الغربية ومفكريهم ينبذون الشيعة
ويسمونهم بالتعصب الديني ويسمونهم رجعيين لانهم يريدون الرجوع إلى القرآن
الذي يقطع يد السارق ويرجم الزاني ويأمر بالجهاد في سبيل الله وكل ذلك عندهم
عنجهية بربرية .
وفهمت خلال هذا البحث لماذا أغلق بعض علماء أهل السنة والجماعة باب
الاجتهاد منذ فقهاء القرن الثالث للهجرة فربما كان ذلك لما جره هذا الاجتهاد على
الامة من ويلات ومصائب وخطوب وحروب دامية أكلت الاخضر واليابس وقد
أبدل الاجتهاد خير أمة أخرجت للناس أمة متناحرة متقاتلة تسودها الفوضى
وتحكم فيها القبلية وتنقلب من الاسلام إلى الجاهلية .
بعكس الشيعة الذين بقي عندهم باب الاجتهاد مفتوحا ما دامت
النصوص قائمة ولا يمكن لاي أحد تبديلها وأعانهم على ذلك وجود الائمة الاثني
عشر الذين ورثوا علم جدهم فكانوا يقولون ليس هناك مسألة إلا ولله حكم فيها
وقد بينه رسول الله صلى الله عليه وآله .
ونفهم أيضا أن أهل السنة والجماعة لما اقتدوا بالصحابة المجتهدين الذين
منعوا كتابة السنة النبوية وجدوا أنفسهم مضطرين أمام غياب النصوص للاجتهاد
بالرأي والقياس والاستصحاب وسد باب الذرائع إلى غير ذلك ...
____________
( 1 ) سورة آل عمران : آية 159 .
( 2 ) سورة القصص : آية 68 .
( 202 )
ونفهم أيضا من كل ذلك أن الشيعة التفوا حول الامام علي وهو باب مدينة
العلم والذي كان يقول لهم : سلوني عن كل شيء فقد علمني رسول الله ألف
باب من العلم يفتح لكل باب ألف باب (1). بينما التف غير الشيعة حول
معاوية بن أبي سفيان الذي لم يكن يعرف من سنة النبي إلا قليلا . وأصبح إمام
الفئة الباغية أميرا للمؤمنين ، بعد وفاة الامام علي فعمل في دين الله برأيه أكثر من
الذين سبقوه ، وأهل السنة والجماعة يقولون إنه كاتب الوحي وإنه من العلماء
المجتهدين ، كيف يحكمون باجتهاده وقد دس السم للحسن بن علي سيد شباب
أهل الجنة فقتله ؟ ولعلهم يقولون : هذا أيضا من اجتهاده فقد اجتهد وأخطأ ! .
كيف يحكمون باجتهاده وقد أخذ البيعة من الامة بالقوة والقهر لنفسه ثم
لابنه يزيد من بعده وحول نظام الشورى إلى الملكية القيصرية .
كيف يحكمون باجتهاده ويعطونه أجرا وقد حمل الناس على لعن علي وأهل
البيت ذرية المصطفى من فوق المنابر وأصبحت سنة متبعة طوال ستين عاما .
بل كيف يسمونه ( كاتب الوحي ) . . وقد نزل الوحي على
رسول الله صلى الله عليه وآله طيلة ثلاثة وعشرين عاما ، كان معاوية مدة أحد عشر عاما منها
مشركا بالله . . ولما أسلم بعد الفتح لم نعثر على رواية تقول أنه سكن المدينة في
حين أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يسكن مكة بعد الفتح . . فكيف تسنى لمعاوية كتابة
الوحي يا ترى ؟ ! .
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! والسؤال يعود دائما : أي
الفريقين على الحق وأيهما على الباطل ، فإما أن يكون علي وشيعته ظالمين وعلى غير
الحق ، وإما أن يكون معاوية وأتباعه ظالمين وعلى غير الحق .
وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وآله كل شيء غير أن بعض مدعي أتباع السنة
____________
( 1 ) تاريخ دمشق لابن عساكر ج 2 ص 484 ترجمة الامام علي بن أبي طالب . مقتل الحسين للخوارزمي
ج 1 ص 38 . الغدير للاميني ج 3 ص - 120 .
( 203 )
يبغونها عوجا وقد اتضح لي من خلال البحث ومن خلال الوقوف على الدفاع عن
معاوية إن المدافعين عنه هم أتباعه وأتباع بني أمية وليسوا كما يدعون أتباع السنة
النبوية ؛ وخصوصا إذا تتبعت مواقفهم فهم يكرهون شيعة علي ويحتفلون بيوم
عاشوراء عيدا ويدافعون عن الصحابة الذين آذوا رسول الله في حياته وبعد وفاته
ويصححون أخطاءهم ويبررون أعمالهم .
ترى ؛ كيف تحبون عليا وأهل البيت وتترضون في نفس الوقت على
أعدائهم وقاتليهم ؟ كيف تحبون الله ورسوله وتدافعون عمن بدل أحكام الله
ورسوله واجتهد وتأول برأيه في أحكام الله ؟ .
كيف تحترمون من لم يحترم رسول الله بل يرميه بالهجر ويطعن في إمارته ؟ ! .
كيف تقلدون أئمة نصبتهم الدولة الاموية أو الدولة العباسية لامور سياسية
وتتركون الائمة الذين نص عليهم رسول الله بعددهم (1) وبأسمائهم (2). كيف
تقلدون من لم يعرف النبي حق معرفته وتتركون باب مدينة العلم ومن كان منه
بمنزلة هارون من موسى ؟ !
* من الذي أطلق مصطلح أهل السنة والجماعة ؟ !
لقد بحثت في التاريخ فلم أجد إلا أنهم اتفقوا على تسمية العام الذي
استولى فيه معاوية على الحكم « عام الجماعة » ، وذلك أن الامة انقسمت بعد
مقتل عثمان إلى قسمين شيعة علي وأتباع معاوية ولما استشهد الامام علي واستولى
معاوية على الحكم بعد الصلح الذي أبرمه مع الامام الحسن وأصبح معاوية هو
أمير المؤمنين سُمّيَ ذلك العام « عام الجماعة » ، إذاً فتسمية « أهل السنة
والجماعة » دالة على اتباع سنة معاوية والاجتماع عليه وليست تعني اتباع سنة
رسول الله ، فالائمة من ذريته وأهل بيته أدرى وأعلم بسنة جدهم من الطلقاء ،
وأهل البيت أدرى بما فيه ، وأهل مكة أدرى بشعابها ولكننا خالفنا الائمة الاثني
____________
( 1 ) صحيح البخاري ج 4 ص 164 صحيح مسلم ص 119 في باب الناس تبع لقريش .
( 2 ) ينابيع المودة للقندوزي الحنفي .
( 204 )
عشر الذين نص عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله واتبعنا أعداءهم .
ورغم اعترافنا بالحديث الذي ذكر فيه رسول الله اثني عشر خليفة كلهم من
قريش إلا أننا نتوقف دائما عند الخلفاء الاربعة ولعل معاوية الذي سمانا « أهل
السنة والجماعة » كان يقصد الاجتماع على السنة التي سنها بسب علي وأهل البيت
والتي استمرت ستين عاماً ولم يقدر على إزالتها إلا عمر بن عبدالعزيز رضي الله
عنه وقد يحدثنا بعض المؤرخين أن الامويين تآمروا على قتل عمر بن عبدالعزيز
وهو منهم لانه أمات السنة وهي لعن علي بن أبي طالب .
يا أهلي وعشيرتي لنتجه - على هدى الله تعالى - إلى البحث عن الحق وننبذ
التعصب جانباً فنحن ضحايا بني أمية وبني العباس وضحايا التاريخ المظلم
وضحايا الجمود الفكري الذي ضربه علينا الاوائل ، إننا لا شك ضحايا الدهاء
والمكر الذي اشتهر به معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وأضرابهم ؛
ابحثوا في واقع تاريخنا الاسلامي لتبلغوا الحقائق الناصعة وسيؤتيكم الله أجركم
مرتين فعسى أن يجمع الله بكم شمل هذه الامة التي نكبت بعد موت نبيها وتمزقت
إلى ثلاث وسبعين فرقة ، هلموا لتوحيدها تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله
الاقتداء بأهل البيت النبوي الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله باتباعهم فقال : « لا
تقدموهم فتهلكوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم
منكم »(1).
لو فعلنا ذلك ، لرفع الله مقته وغضبه عنا ولا بدلنا من بعد خوفنا أمناً ،
ولمكننا في الارض واستخلفنا فيها ولا ظهر لنا وليه الامام المهدي عليه السلام الذي
وعدنا به رسول الله ليملأ أرضنا قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وليتم به الله
نوره في كل المعمورة .
____________
( 1 ) الدر المنثور للسيوطي ج 2 ص 60 ص 60 اُسد الغابة ج 3 ص 137 الصواعق المحرقة لابن حجر
ص 148 و 226 ينابيع المودة ص 41 و 355 كنز العمال ج 1 ص 168 مجمع الزوائد ج 9 ص 163 .
كان التحول بداية السعادة الروحية إذ أحسست براحة الضمير وانشرح
صدري للمذهب الحق الذي اكتشفته أو قل للاسلام الحقيقي الذي لا شك
فيه ؛ وغمرتني فرحة كبيرة واعتزاز بما أنعم الله عليّ من هداية ورشاد .
ولم يسعني السكوت والتكتم على ما يختلج في صدري وقلت في نفسي : لا
بد لي من إفشاء هذه الحقيقة على الناس ( وأما بنعمة ربك فحدث ) وهي من
أكبر النعم أو هي النعمة الكبرى في الدنيا وفي الآخرة ، و « الساكت عن الحق
شيطان أخرس » « وليس بعد الحق » إلا « الضلال » .
والذي زاد شعوري يقينا بوجوب نشر هذه الحقيقة هو براءة أهل السنة
والجماعة الذين يحبون رسول الله وأهل بيته ويكفي أن يزول الغشاء الذي نسجه
التاريخ حتى يتبعوا الحق وهذا ما وقع لي شخصيا .
قال تعالى : ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم )(1).
ودعوت أربعة أصدقاء من الاساتذة العاملين معي في المعهد كان إثنان منهم
يدرسان التربية الدينية والثالث يدرس مادة العربية والرابع كان أستاذ الفلسفة
الاسلامية . لم يكن أربعتهم من قفصة بل كانوا من تونس ومن جمال وسوسة ،
____________
( 1 ) سورة النساء : آية 94 .
( 206 )
دعوتهم إلى البحث معي في هذا الموضوع الخطير وأشعرتهم بأني قاصر عن إدراك
بعض المعاني وقد اضطربت وتشككت في بعض الامور ، وقبلوا المجيء إلى بيتي
بعد إنهاء العمل ، وتركتهم يقرأون كتاب المراجعات على أن مؤلفه يدعي أشياء
عجيبة وغريبة في الدين ، وقد استهوى الكتاب ثلاثة منهم أما الرابع الذي يدرس
اللغة العربية فقد قاطعنا بعد أربع جلسات أو خمس قائلا : « إن الغرب الآن
يغزو القمر وأنتم ما زلتم تبحثون عن الخلافة الاسلامية » .
وما أن أتممنا الكتاب خلال شهر واحد حتى استبصر ثلاثتهم وقد أعنتهم
كثيرا للوصول إلى الحقيقة من أقرب الطرق بما تكون عندي من سعة الاطلاع
خلال سنوات البحث وذقت حلاوة الهداية واستبشرت بالمستقبل وأخذت أدعو في
كل مرة بعض الاصدقاء من قفصة والذين كانت تربطني بهم حلقات الدرس في
المسجد أو العلاقات المنجرة من الطرق الصوفية وبعض تلاميذي الذين كانوا
يلازمونني وما مرت سنة واحدة حتى أصبحنا بحمد الله عددا كبيرا نوالي أهل
البيت ، نوالي من والاهم ونعادي من عاداهم ، نفرح في أعيادهم ونحزن في
عاشورا ونعقد مجالس تعزية .
وكانت أولى رسائلي التي تحمل خبر استبصاري إلى السيد الخوئي والسيد
محمد باقر الصدر بمناسبة عيد الغدير إذ احتفلنا به أول مرة في قفصة ، وقد اشتهر
أمري لدى الخاص والعام بأني تشيعت وأني أدعو إلى التشيع لآل بيت
الرسول صلى الله عليه وآله وبدأت الاتهامات والاشاعات تروج في البلاد ، على أنني جاسوس
لاسرائيل أعمل على تشكيك الناس في دينهم وبأنني أسب الصحابة وبأنني
صاحب فتنة إلى غير ذلك .
وفي تونس العاصمة اتصلت بالصديقين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو
وكانت معارضتهما لي عنيفة جدا وفي حديث دار بيننا في بيت عبد الفتاح ، قلت
يجب علينا كمسلمين مراجعة كتبنا ومراجعة تاريخنا وضربت لذلك مثلا صحيح
البخاري الذي فيه أشياء لا يقبلها عقل ولا دين .
وثارت ثائرتهما قائلين لي : من أنت حتى تنتقد البخاري ؟ وبذلت كل جهدي
( 207 )
من أجل إقناعهما بالدخول في البحث العلمي الموضوعي فرفضا ذلك .
ازدادت على أثره حملة الاشاعات ضدنا من قبل البعض وبثوا في أوساطهم
إشاعات غريبة بغية إبعاد الناس عني وإحاطتي بطوق من العزلة - سامحهم الله
تعالى ـ .
وبدأت العزلة من بعض الشبان ومن الشيوخ الذين يتبعون الطرق الصوفية
وعشنا فترات قاسية غرباء في ديارنا وبين إخواننا وعشيرتنا ولكن الله سبحانه أبدلنا
خيرا منهم فكان بعض الشبان يأتون من مدن أخرى يسألون عن الحقيقة فكنت
أبذل قصارى ما في وسعي لاقناعهم بحقيقة منهج أهل البيت ( ع ) وبالواقع
التاريخي فاستبصر عدد من الشبان في العاصمة وفي القيروان وفي سوسة وسيدي
بوزيد وكنت خلال رحلتي الصيفية إلى العراق مررت بأوروبا حيث التقيت بعض
الاصدقاء في فرنسا وفي هولندا وتحدثت معهم في الموضوع فاستبصروا
والحمد لله .
وكم كانت فرحتي عظيمة عندما قابلت السيد محمد باقر الصدر في النجف
الاشرف وكان في بيته نخبة من العلماء وأخذ السيد يقدمني إليهم بأني بذرة التشيع
لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله في تونس كما أعلمهم بأنه بكى تأثرا عندما وصلته رسالتي
مهنئة تحمل إليه بشرى احتفالنا أول مرة بعيد الغدير السعيد وشكوت إليه ما
نلاقيه من مقاومة ومن بث الاشاعات ضدنا والعزلة التي نواجهها .
وقال السيد في معرض كلامه : « لابد » من تحمل المشاق لان طريق أهل
البيت صعب ووعر ، وقد جاء رجل إلى النبي (ص) فقال له : إني أحبك يا
رسول الله ! فقال له : أبشر بكثرة الابتلاء ، فقال : وأحب ابن عمك عليا !
فقال : أبشر بكثرة الاعداء . فقال : وأحب الحسن والحسين ! فقال له : فاستعد
للفقر وكثرة البلاء . وماذا قدمنا نحن في سبيل دعوة الحق التي دفع ثمنها أبو
عبدالله الحسين ( ع ) بنفسه وأهله وذريته وأصحابه ، كما دفع ثمنها الشيعة على مر
التاريخ وما زالوا حتى اليوم يدفعون ثمن ولائهم لاهل البيت ، فلابد يا أخي من
تحمل بعض الاتعاب والتضحية في سبيل الحق فلئن يهدي الله بك رجلا واحدا
خير لك من الدنيا وما فيها .
( 208 )
كما نصحني السيد الصدر بعدم الانزواء وأمرني بأن أتقرب أكثر من إخواني
أهل السنة كلما حاولوا الابتعاد عني ، وأمرني أن أصلي خلفهم حتى لا تكون
القطيعة ، وأن أعتبرهم أبرياء فهم ضحايا الاعلام والتاريخ المزيف ، والناس
أعداء ما جهلوا .
وقد نصحني السيد الخوئي بالشيء نفسه تقريبا ، كما كان السيد محمد علي
الطباطبائي الحكيم يبعث لنا دائما بنصائحه في رسائل متعددة كان لها أثر كبير في
سيرة الاخوة المستبصرين على الهدى .
هذا وقد تعددت زياراتي للنجف الاشرف ولعلماء النجف في مناسبات كثيرة ،
ثم آليت على نفسي أن أقضى العطلة الصيفية من كل عام في رحاب الامام علي
أحضر دروس السيد محمد باقر الصدر التي استفدت منها كثيرا ونفعتني أيما نفع كما
آليت على نفسي أن أزور مقامات الائمة الاثني عشر وقد حقق الله أمنيتي بأن وفقني
حتى لزيارة الامام الرضا الذي يوجد مرقده في مشهد وهي مدينة قرب الحدود
الروسية في إيران وهناك تعرفت على أبرز العلماء واستفدت منهم كثيرا .
كما أعطاني السيد الخوئي الذي كنا نقلده وكالة للتصرف في الخمس والزكاة
وإفادة المجموعة المستبصرة عندنا بما تحتاجه من كتب وإعانات وغير ذلك ، وقد
كونت مكتبة مفيدة بها أهم المصادر التي تخص البحث وتجمع كتب الفريقين
وتحمل إسم مكتبة أهل البيت ( عليهم السلام ) وقد أفادت الكثيرين
والحمد لله .
وزاد الله فرحتنا فرحتين وسعادتنا سعادتين فقبل حوالي خمسة عشر عاما
سخر لنا الله الكاتب العام لبلدية قفصة فوافق على تسمية الشارع الذي أسكن فيه
باسم شارع الامام علي بن أبي طالب ( ع ) ، فلا يفوتني هنا أن أشكر له هذه اللفتة
المشرفة ، فهو من المسلمين العاملين وله ميل كبير ومحبة فائقة لشخص الامام علي
( ع ) وقد أهديته كتاب المراجعات ، وهو يبادل مجموعتنا حبا وتقديرا واحتراما فجزاه
الله خيرا وأعطاه ما يتمنى .
وقد عمل بعض الحاقدين على إزالة اللوحة وأعيتهم الحيل وشاء الله تثبيتها
( 209 )
وأصبحت الرسائل ترد علينا من كل أنحاء العالم وعليها اسم شارع الامام علي بن
أبي طالب ( ع ) ؛ الذي بارك اسمه الشريف مدينتنا الطيبة العريقة .
وعملا بنصائح الائمة من أهل البيت ( عليهم السلام ) وكذلك بنصائح
علماء النجف الاشرف عمدنا إلى التقرب من إخوتنا من المذاهب الاخرى ولازمنا
الجماعة فكنا نصلي معا ، وخفت بذلك حدة التوتر وتمكنا من إقناع بعض الشبان
من خلال تساؤلاتهم عن كيفية صلاتنا ووضوئنا وعقائدنا .
في إحدى قرى الجنوب التونسي وخلال حفل زفاف كانت النساء يتحدثن
عن فلانة زوجة فلان ، واستغربت العجوز الكبيرة التي كانت تجلس وسطهن
وتسمع حديثهن أن تكون فلانة قد تزوجت فلانا ولما سألنها عن سبب استغرابها
اخبرتهن أنها أرضعت الاثنين فهما أخوان من الرضاعة ، ونقل النسوة هذا النبأ
العظيم إلى أزواجهن وتثبت الرجال فشهد والد المرأة بأن ابنته أرضعتها تلك
العجوز المعروفة لدى الجميع بأنها مرضعة كما شهد والد الزوج بأن ابنه أرضعته
نفس المرضعة ، وقامت قيامة العشيرتين وتقاتلوا بالعصي كل منهما تتهم الاخرى
بأنها سبب الكارثة التي سوف تجرهم إلى سخط الله وعقابه وخصوصا لان هذا
الزواج مر عليه عشرة أعوام أنجبت المرأة خلالها ثلاثة أطفال وقد هربت عند
سماعها الخبر إلى بيت أبيها وامتنعت عن الاكل والشراب وأرادت الانتحار لانها لم
تتحمل الصدمة وكيف أنها تزوجت من أخيها وولدت منه وهي لا تعلم ، وسقط
عدد من الجرحى من العشيرتين وتدخل أحد الشيوخ الكبار وأوقف المعارك
ونصحهم بأن يطوفوا على العلماء ليستفتوهم في هذه القضية عسى أن يجدوا حلا .
فصاروا يتجولون في المدن الكبرى المجاورة يسألون علماءها عن حل
لقضيتهم وكلما اتصلوا بعالم وأطلعوه على الامر أخبرهم بحرمة الزواج وضرورة
تفريق الزوجين إلى الابد وتحرير رقبة أو صيام شهرين إلى غير ذلك من الفتاوى .
ووصلوا إلى قفصة وسألوا علماءها فكان الجواب نفسه ، لان المالكية
( 212 )
كلهم يحرمون الرضاعة ولو من قطرة واحدة اقتداء بالامام مالك الذي قاس
الحليب على الخمر إذ أن ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) ، فتحرم الرضاعة ولو من
قطرة واحدة من الحليب ، والذي وقع أن أحد الحاضرين اختلى بهم ودلهم على
بيتي قائلا لهم : أسألوا التيجاني في مثل هذه القضايا فإنه يعرف كل المذاهب ،
وقد رأيته يجادل هؤلاء العلماء عدة مرات فيبزهم بالحجة البالغة .
هذا ما نقله إليّ زوج المرأة حرفيا عندما أدخلته إلى المكتبة وحكى لي كل
القضية بالتفصيل من أولها إلى آخرها وقال : « يا سيدي أن زوجتي تريد الانتحار
وأولادي مهملون ونحن لا نعرف حلا لهذه المشكلة وقد دلونا عليك وقد
استبشرت خيرا لما رأيت عندك هذه الكتب التي لم أشهد في حياتي مثلها فعسى أن
يكون الحل عندك » .
أحضرت له قهوة وفكرت قليلا ثم سألته عن عدد الرضعات التي رضعها
هو من المراة فقال : لا أدري غير أن زوجتي رضعت منها مرتين أو ثلاثا وقد شهد
أبوها بأنه حملها مرتين أو ثلاث مرات إلى تلك العجوز المرضعة ، فقلت إذا كان
هذا صحيحا فليس عليكما شيء والزواج صحيح وحلال محلل ، وارتمى المسكين
علي يقبل رأسي ويدي ويقول : بشرك الله بالخير لقد فتحت أبواب السكينة
أمامي ، ونهض مسرعا ولم يكمل قهوته ولا استفسر مني ولا طلب الدليل غير أنه
استأذن للخروج حتى يسرع فيبشر زوجته وأولاده وأهله وعشيرته .
لكنه رجع في اليوم التالي ومعه سبعة رجال وقدمهم إلي قائلا : هذا والدي
وهذا والد زوجتي والثالث هو عمدة القرية والرابع إمام الجمعة والجماعة والخامس
هو المرشد الديني والسادس شيخ العشيرة والسابع هو مدير المدرسة ، وقد جاؤوا
يستفسرون عن قضية الرضاعة وبماذا حللتها ؟ .
وأدخلت الجميع إلى المكتبة وكنت أتوقع جدالهم وأحضرت لهم القهوة
ورحبت بهم : قالوا إنما جئناك نناقشك في تحليلك الرضاعة وقد حرمها الله في
القرآن ، وحرمها رسوله بقوله : يحرم بالرضاعة ما يحرم بالنسب ، وكذلك حرمها
الامام مالك .
( 213 )
قلت : يا سادتي أنتم ما شاء الله ثمانية وأنا واحد فاذا تكلمت مع الجميع
فسوف لن أقنعكم وتضيع المناقشة في الهامشيات ، وإنما اقترح عليكم اختيار
أحدكم حتى أتناقش معه وأنتم تكونون حكما بيني وبينه ! .
وأعجبتهم الفكرة واستحسنوها ، وسلموا أمرهم إلى المرشد الديني قائلين
أنه أعلمهم وأقدرهم ، وبدأ السيد يسألني كيف أحلل ما حرم الله ورسوله
والائمة ؟ ! .
قلت : أعوذ بالله أن أفعل ذلك ! ولكن الله حرم الرضاعة بآية مجملة ولم
يبين تفصيل ذلك وإنما أوكل ذلك إلى رسوله فأوضح مقصود الآية بالكيف
والكم .
قال : فإن الامام مالك يحرم الرضاعة من قطرة واحدة .
قلت : أعرف ذلك ، ولكن الامام مالك ليس حجة على المسلمين وإلا فما
هو قولك بالائمة الآخرين ؟ .
أجاب : رضي الله عنهم وأرضاهم فكلهم من رسول ملتمس .
قلت : فما هي إذن حجتك عند الله في تقليدك الامام مالك الذي يخالف
رأيه نص الرسول صلى الله عليه وآله ؟ .
قال محتارا : سبحان الله أنا لا أعلم أن الامام مالكا إمام دار الهجرة
يخالف النصوص النبوية ، وتحير الحاضرون من هذا القول ، واستغربوا مني هذه
الجرأة على الامام مالك والتي لم يعهدوها من قبل في غيري ، واستدركت قائلا : هل
كان الامام مالك من الصحابة ؟ قال : لا ، قلت : هل كان من التابعين ؟ قال :
لا ، وإنما هو من تابعي التابعين .
قلت : فأيهما أقرب هو أم الامام علي بن أبي طالب ؟ .
قال : الامام علي أقرب فهو من الخلفاء الراشدين ، وتكلم أحد الحاضرين
قائلا : سيدنا علي كرم الله وجهه هو باب مدينة العلم .
فقلت : فلماذا تركتم باب مدينة العلم واتبعتم رجلا ليس من الصحابة ولا
( 214 )
من التابعين وإنما ولد بعد الفتنة وبعدما أبيحت مدينة رسول الله لجيش يزيد
وفعلوا فيها ما فعلوا وقتلوا خيار الصحابة وانتهكوا فيها المحارم ، وغيروا سنة
الرسول ببدع ابتدعوها ، فكيف يطمئن الانسان بعد ذلك إلى هؤلاء الائمة الذين
رضيت عنهم السلطة الحاكمة لانهم أفتوها بما يلائم أهواءهم .
وتكلم أحدهم وقال : سمعنا أنك شيعي تعبد الامام عليا فلكزه صاحبه
الذي كان بجانبه لكزة أوجعته وقال له : أسكت أما تستحي أن تقول مثل هذا
القول لرجل فاضل مثل هذا وقد عرفت العلماء وحتى الآن لم تر عيني مكتبة مثل
هذه المكتبة ، وهذا الرجل يتكلم عن معرفة ووثوق بما يقول ! .
أجبته قائلا : أنا شيعي هذا صحيح ولكن الشيعة لا يعبدون عليا وإنما
عوض أن يقلدوا الامام مالكا فهم يقلدون الامام عليا لانه باب مدينة العلم
حسب شهادتكم ، قال المرشد الديني : وهل حلل الامام علي زواج
الرضيعين ؟ .
قلت : لا ولكنه يحرم ذلك إذا بلغت الرضاعة خمس عشرة رضعة مشبعات
ومتواليات ، أو ما أنبت لحما وعظما .
وتهلل وجه والد الزوجة وقال : الحمد لله فابنتي لم ترضع إلا مرتين أو ثلاث
مرات فقط ، وإن في قول الامام علي هذا مخرجا لنا من هذه الورطة ورحمة لنا من
الله بعد أن يئسنا .
فقال المرشد : أعطنا الدليل على هذا القول حتى نقتنع ؛ فأعطيتهم كتاب
منهاج الصالحين للسيد الخوئي ، وقرأ هو بنفسه عليهم باب الرضاعة ، وفرحوا
بذلك فرحا عظيما وخصوصا الزوج الذي كان خائفا أن لا يكون لديّ الدليل
المقنع وطلبوا مني إعارتهم الكتاب حتى يحتجوا به في قريتهم فسلمته إليهم
وخرجوا مودعين داعين معتذرين .
وبمجرد خروجهم من بيتي التقى بهم أحد المناوئين وحملهم إلى بعض علماء
السوء فخوفوهم وحذروهم بأني عميل لاسرائيل وأن كتاب منهاج الصالحين الذي
أعطيتهم إياه كله ضلالة وأن أهل العراق هم أهل الكفر والنفاق وأن الشيعة
( 215 )
مجوس يبيحون نكاح الاخوات فلا غرابة إذن في إباحتي لهم نكاح الاخت من
الرضاعة إلى غير ذلك من التهم والاراجيف وما زال بهم يحذرهم حتى ارتدوا على
أعقابهم وانقلبوا بعد اقتناعهم ، وأجبروا الزوج على أن يتقدم بدعوى عدلية
للطلاق لدى المحكمة الابتدائية في قفصة وطلب منهم رئيس المحكمة أن يذهبوا
إلى العاصمة ويتصلوا بمفتي الجمهورية ليحل هذا الاشكال ، وسافر الزوج وبقى
هناك شهرا كاملا حتى تمكن من مقابلته وقص عليه قصته من أولها إلى آخرها
وسأله مفتي الجمهورية عن العلماء الذين قالوا بحلية الزواج وصحته فأجاب
الزوج بأنه ليس هناك من قال بحليته غير شخص واحد هو التيجاني السماوي ،
وسجل المفتي إسمي وقال للزوج : إرجع أنت وسوف أبعث أنا برسالة إلى رئيس
المحكمة في قفصة ، وبالفعل جاءت الرسالة من مفتي الجمهورية وأطلع عليها
وكيل الزوج وأعلمه بأن مفتي الجمهورية حرم ذلك الزواج .
هذا ما قصه عليّ زوج المرأة الذي بدا عليه الضعف والارهاق من كثرة
التعب وهو يعتذر إليّ مما سببه لي من إزعاج وحرج ، فشكرته على عواطفه متعجبا
كيف يبطل مفتي الجمهورية الزواج القائم في مثل هذه القضية ، وطلبت منه أن
يأتيني برسالته التي بعثها إلى المحكمة حتى أنشرها في الصحف التونسية وأبين أن
مفتي الجمهورية يجهل المذاهب الاسلامية ولا يعرف اختلافهم الفقهي في مسألة
الرضاعة .
فقال الزوج أنه لا يمكنه أن يطلع على ملف قضيته فضلا عن أن يأتيني
برسالة منه ، وافترقنا .
وبعد بضعة أيام جاءتني دعوة من رئيس المحكمة يأمرني فيها بإحضار
الكتاب والادلة على عدم بطلان ذلك الزواج بين ( الرضيعين ) ! ، وذهبت محملا
بعدة مصادر انتقيتها مسبقا ووضعت في كل منها بطاقة في باب الرضاعة ليسهل
تخريجه في لحظة واحدة ، وذهبت في اليوم والساعة المذكورين واستقبلني كاتب
المحكمة وأدخلني إلى مكتب الرئيس وفوجئت برئيس المحكمة الابتدائية ورئيس
محكمة الناحية ووكيل الجمهورية ومعهم ثلاثة أعضاء وكلهم يرتدون لباسهم
الخاص للقضاء وكأنهم في جلسة رسمية ، ولاحظت أيضا أن زوج المرأة يجلس في
( 216 )
آخر القاعة قبالهم ، وسلمت على الجميع فكانوا كلهم ينظرون إلي باشمئزاز
واحتقار ولما جلست خاطبني الرئيس بلهجة خشنة قائلا :
- أنت هو التيجاني السماوي ؟ قلت : نعم .
- قال : أنت الذي أفتيت بصحة الزواج في هذه القضية ؟ .
- قلت : لا لست أنا بمفت ، ولكن الائمة وعلماء المسلمين هم الذين أفتوا
بحليته وصحته ! .
- قال : ومن أجل ذلك دعوناك ، وأنت الآن في قفص الاتهام ، فإذا لم
تثبت دعواك بالدليل فسوف نحكم بسجنك وسوف لن تخرج من هنا إلا إلى
السجن .
وعرفت وقتها أنني بالفعل في قفص الاتهام ، لا لانني أفتيت في هذه
القضية ، ولكن لان بعض علماء السوء حدث هؤلاء الحكام بأنني صاحب فتنة
وأنني أسب الصحابة وأبث التشيع لآل البيت النبوي ، وقد قال له رئيس المحكمة
إذا أتيتني بشاهدين ضده فسألقيه في السجن .
أضف إلى ذلك أن جماعة من الاخوان المسلمين استغلوا هذه الفتوى
وروجوا لدى الخاص والعام أنني أبيح نكاح الاخوات وهو قول الشيعة على
زعمهم ! .
كل ذلك عرفته من قبل وتيقنته عندما هددني رئيس المحكمة بالسجن فلم
يبق أمامي إلا التحدي والدفاع عن نفسي بكل شجاعة فقلت للرئيس :
- هل لي أن أتكلم بصراحة وبدون خوف ، قال :
- نعم تكلم فأنت ليس لك محام . . قلت :
- قبل كل شيء أنا لم أنصب نفسي للافتاء ، ولكن ها هو زوج المرأة أمامكم
فاسألوه ، فهو الذي جاءني إلى بيتي يطرق بابي ويسألني ، فكان واجبا عليّ أن
أجيبه بما أعلم وقد سألته بدوري عن عدد الرضعات ولما أعلمني بأن زوجته لم
ترضع غير مرتين أعطيته وقتها حكم الاسلام فيها ، فلست أنا من المجتهدين ولا
من المشرعين .
( 217 )
قال الرئيس : عجبا ، أنت الآن تدعي أنك تعرف الاسلام ونحن
نجهله ! قلت : أستغفر الله أنا لم أقصد هذا ، ولكن كل الناس هنا يعرفون
مذهب الامام مالك ويتوقفون عنده ، وأنا فتشت في كل المذاهب ووجدت حلا
لهذه القضية .
قال الرئيس : أين وجدت الحل ؟ قلت :
- قبل كل شيء هل لي أن أسالكم سؤالا ياسيدي الرئيس ؟ .
- قال : إسأل ما تريد .
- قلت : ما قولكم في المذاهب الاسلامية ؟ .
- قال : كلها صحيحة ، فكلهم من رسول الله ملتمس ، وفي اختلافهم
رحمة .
- قلت : فارحموا إذن هذا المسكين « مشيرا إلى زوج المرأة » الذي قضى
الآن أكثر من شهرين وهو مفارق لزوجه وولده بينما هناك من المذاهب الاسلامية
من حل مشكلته .
فقال الرئيس مغضبا :
- هات الدليل وكفاك تهريجا ، نحن سمحنا لك بالدفاع عن نفسك
فأصبحت محاميا لغيرك .
فأخرجت له من حقيبتي كتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي وقلت : هذا
مذهب أهل البيت وفيه الدليل ، فقاطعني قائلا : دعنا من مذهب أهل البيت فنحن
لا نعرفه ولا نؤمن به .
كنت متوقعا هذا ولذلك أحضرت معي بعد البحث والتنقيب عدة مصادر
لاهل السنة والجماعة كنت رتبتها حسب علمي فوضعت البخاري في المرتبة
الاولى ثم صحيح مسلم وبعده كتاب الفتاوى لمحمود شلتوت وكتاب بداية
المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ، وكتاب زاد المسير في علم التفسير لابن
الجوزي وعدة مصادر أخرى من كتب ( أهل السنة ) ، ولما رفض الرئيس أن ينظر
( 218 )
في كتاب السيد الخوئي سألته عن الكتب التي يثق بها ، قال : البخاري ومسلم .
وأخرجت صحيح البخاري وفتحته على الصفحة المعينة وقلت : تفضل يا
سيدي إقرأ .
- قال : إقرأ أنت ؟ وقرأت : حدثنا فلان عن فلان عن عائشة أم المؤمنين
قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يحرم من الرضعات إلا خمسا فما فوق .
وأخذ الرئيس مني الكتاب وقرأ بنفسه وأعطاه إلى وكيل الجمهورية بجانبه
فقرأ هو الآخر وناوله لمن بعده في حين أخرجت صحيح مسلم وأطلعته على نفس
الاحاديث ثم فتحت كتاب الفتاوى لشيخ الازهر شلتوت وقد ذكر هو الآخر
اختلافات الائمة في مسألة الرضاعة فمنهم من ذهب إلى القول بأن المحرم ما بلغ
خمس عشرة رضعة ومنهم من قال بسبعة ومنهم من حرم فوق الخمسة عدا مالك
الذي خالف النص وحرم قطرة واحدة ثم قال شلتوت : وأنا أميل إلى أوسط
الآراء فأقول سبعا فما فوق ، وبعد ما اطلع رئيس المحكمة على كل ذلك قال :
يكفي . ثم التفت إلى زوج المرأة وقال له : إذهب الآن وآئتني بوالد زوجتك ليشهد
أمامي بأنها رضعت مرتين أو ثلاثا وسوف تأخذ زوجتك معك هذا اليوم . .
وطار المسكين فرحا ، واعتذر وكيل الجمهورية وبقية الاعضاء الحاضرين
للالتحاق بأعمالهم وأذن لهم الرئيس ، ولما خلا بنا المجلس التفت إلي معتذرا
وقال : سامحني ياأستاذ لقد غلطوني فيك وقالوا فيك أشياء غريبة وأنا الآن عرفت
أنهم حاسدون ومغرضون يريدون بك شرا .
وطار قلبي فرحا بهذا التحول السريع وقلت : الحمد لله الذي جعل
نصري على يديك يا سيدي الرئيس ، فقال : سمعت بأن عندك مكتبة عظيمة
فهل يوجد فيها كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري ؟ .
قلت : نعم ، فقال : هل تعيرني إياه ، فقد مضى عامان وأنا أبحث عنه :
قلت : هو لك يا سيدي متى أردت ، قال : هل عندك وقت يسمح لك بالمجيء
إلى مكتبتي لنتحدث وأستفيد منك .
قلت : أستغفر الله فأنا الذي أستفيد منك ، فأنت أكبر مني سنا وقدرا ،
( 219 )
وعندي أربعة أيام راحة في الاسبوع وأنا رهن إشارتك .
واتفقنا على يوم السبت من كل أسبوع لانه ليس له جلسات للمحكمة في
ذلك اليوم .
وبعدما طلب مني أن أترك له كتابي البخاري ومسلم وكتاب الفتاوى
لمحمود شلتوت لكي يحرر منها النص قام بنفسه وأخرجني من مكتبه مودعا .
وخرجت فرحا أحمد الله سبحانه على هذا النصر وقد دخلت خائفا مهددا
بالسجن وخرجت وقد انقلب رئيس المحكمة إلى صديق حميم يحترمني ويطلب مني مجالسته
ليستفيد مني . إنها بركات طريق أهل البيت الذين لا يخيب من تمسك بهم
ويأمن من لجأ إليهم .
وتحدث زوج المرأة في قريته وشاع الخبر في كل القرى المجاورة بعد ما رجعت
المرأة إلى بيت زوجها وانتهت القضية بحلية الزواج ، فأصبح الناس يقولون بأني
أعلم من الجميع وأعلم حتى من مفتي الجمهورية .
وقد جاء زوج المرأة إلى البيت ومعه سيارة كبيرة ودعاني إلى القرية أنا وكل
عائلتي وأعلمني أن كل الاهالي ينتظرون قدومي وسيذبحون ثلاثة عجول لاقامة
الفرج واعتذرت إليه بسبب انشغالي في قفصة وقلت له : سوف أزوركم مرة
أخرى إن شاء الله .
وتحدث رئيس المحكمة إلى أصدقائه واشتهرت القضية ورد الله كيد
الكائدين وجاء بعضهم معتذرين وقد فتح الله بصيرة البعض منهم فاستبصروا
وأصبحوا من المخلصين ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
الطيبين الطاهرين .